23 ـ دروس رمضانية: التقوى ليست شكليات ورسوم

 

 23 ـ دروس رمضانية: التقوى ليست شكليات ورسوم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد وَرَدَت كَلِمَةُ التَّقوى باشتِقاقاتِها في القُرآنِ العَظيمِ ما يُقارِبُ مِئَتَينِ وخَمسٍ وثَلاثينَ مَرَّةً، وما ذاكَ إلا لأهَمِّيَّتِها في حَياةِ الإنسانِ المؤمنِ.

والتَّقوى في دِينِنا ليسَت مُجَرَّدَ شَكلِيَّاتٍ ورُسومٍ يَتَحَلَّى بها الإنسانُ ظاهِراً فَحَسب، وليسَ التَّقِيُّ من يَتَمَظهَرُ بِهَيئَةٍ مُعَيَّنَةٍ في لِباسِهِ وحَرَكاتِهِ، لِيُوحِيَ إلى من رآهُ أنَّهُ عَبدٌ صالِحٌ، التَّقوى سِرٌّ مَضبوطٌ، لا ظاهِرٌ مُلتَزَمٌ فَحَسب، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ».

قَالَ: ثُمَّ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا».

ويَقولُ العارِفُ بالله ابنُ عَطاءِ الله السَّكَندَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: للتَّقوى ظاهِرٌ وباطِنٌ، فَظاهِرُها مُحافَظَةُ الحُدودِ، وباطِنُها النِّيَّةُ والإخلاصُ.

من صِفاتِ المتَّقينَ في القُرآنِ العَظيمِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لو دَقَّقنا في القُرآنِ العَظيمِ وهوَ يُحَدِّثُنا عن صِفاتِ المتَّقينَ، فإنَّنا نَجِدُهُ يَصِفُهُم بانضِباطِهِم ظاهِراً وباطِناً، من جملَةِ ذلكَ قَولُهُ تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِين﴾. ثمَّ ذَكَرَ أوصافَهُم بِقَولِهِ تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون * أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾.

فالتَّقِيُّ هوَ من آمَنَ بالغَيبِ، وهذا عَمَلٌ قَلبِيٌّ، وأقامَ الصَّلاةَ وأنفَقَ، وهذا عَمَلٌ ظاهِرِيٌّ، وآمَنَ بما أُنزِلَ على سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وآمَنَ بما أنزَلَ اللهُ تعالى من قَبلُ، وأيقَنَ بِيَومِ القِيامَةِ، وهذا عَمَلٌ قَلبِيٌّ.

ومن جملَةِ ذلكَ قَولُهُ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين﴾. ثمَّ ذَكَرَ أوصافَهُم بِقَولِهِ تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾.

فالتَّقِيُّ مُنفِقٌ، التَّقِيُّ صاحِبُ خُلُقٍ حَسَنٍ معَ الخَلقِ جميعاً، التَّقِيُّ لا يُصِرُّ على الذَّنبِ، فإذا ما وَقَعَ فيهِ نَدِمَ وأقلَعَ وجَزَمَ على عَدَمِ العَودَةِ واستَغفَرَ.

ومن جملَةِ ذلكَ قَولُهُ تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون﴾.

فالتَّقِيُّ مُحَقِّقٌ أركانَ الإيمانِ، التَّقِيُّ جَوادٌ كريمٌ مُنفِقٌ على القَريبِ والبَعيدِ، على من عَرَفَ وعلى من لم يَعرِف، التَّقِيُّ مُقيمٌ للصَّلاةِ إقامَةً وليسَ أداءً، التَّقِيُّ يَعرِفُ لله حَقَّاً في المالِ إن كانَ فَرضاً أو نَفلاً، التَّقِيُّ صاحِبُ وَفاءٍ بالعُهودِ لا يَعرِفُ النَّقضَ ولا النَّكثَ، التَّقِيُّ صابِرٌ في البأساءِ وصابِرٌ في الضَّرَّاءِ، وصابِرٌ حينَ البأسِ، التَّقِيُّ هوَ الصَّادِقُ سِرَّاً وجَهراً.

أيُّها الإخوة الكرام: من تَحَقَّقَ بالتَّقوى ظاهِراً وباطِناً فهوَ وَلِيُّ الله تعالى، هوَ الذي حَذَّرَ مولانا عزَّ وجلَّ من مُعاداتِهِ بِقَولِهِ تعالى في الحديثِ القُدسِيِّ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ».

الوَلِيُّ لله تعالى هوَ من تَحَقَّقَ بالتَّقوى حَقيقَةً في باطِنِهِ، وسُلوكاً في ظاهِرِهِ، قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون﴾. هؤلاءِ المتَّقونَ لهُمُ البُشرى في الحَياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ بِقَرارٍ من الله تعالى، قال تعالى في حَقِّهِم: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوةُ الكرامُ: وفي الخِتامِ، يَقولُ أنسُ بنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: بَلَغَني أنَّ رَجُلاً من بَعضِ الفُقَهاءِ كَتَبَ إِلى ابنِ الزُّبَير رَضِيَ اللهُ عنهُما يَقولُ: أَلا إنَّ لأهلِ التَّقوى عَلاماتٍ يُعرَفونَ بها، ويُعَرِّفُونَها من أنفُسِهِم:

مَن رَضِيَ بالقَضاءِ، وَصَبَر على البَلاءِ، وشَكَرَ على النَّعماءِ.

وصَدَقَ في اللِّسانِ، وَوَفَّى بالوَعدِ والعَهدِ.

وتَلا لأحكامِ القُرآنِ.

وإنَّما الإمامُ سُوقٌ مِنَ الأسواقِ، فإن كانَ من أهلِ الحَقِّ حَمَلَ إِليه أهلُ الحَقِّ حَقَّهُم، وإن كانَ من أهلِ الباطِلِ حَمَلَ إِليه أهلُ الباطِلِ بَاطِلَهُم.

نَسألُكَ اللَّهُمَّ التَّقوى، وحَقَّ التَّقوى، بِفَضلِكَ يا أرحَمَ الرَّاحمينَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 23 /رمضان /1434هـ، الموافق: 1/آب/ 2013م