10ـ العهد العاشر: ستر عورات المسلمين

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

فالعهد الذي نقطعه على أنفسنا في هذا اليوم المبارك هو: ستر عورات المسلمين، لأنه وللأسف أكثر مجالسنا إلا من رحم ربي فيها هتك لأعراض المسلمين. وعندما نأخذ على أنفسنا عهداً بستر عورات المسلمين نتذكر قول الله عز وجل: {من عمل صالحاً فلنفسه}. أي أنا عندما أستر أعراض المسلمين، وأنت تستر أعراض المسلمين، اعلم بأن هذا من أجل مصلحتك أنت، وإن كان هذا الرجل فعل معصية، أو ارتكب كبيرة من الكبائر. طبعاً ستر عورات المسلمين مع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا لا ننساه، تستر عوراتي مع النصح، وبعد النصح تستر تلك العورة.

وقد يقول قائل: إن أنا سترت عورات المسلمين فكيف سيعود خيره إليّ؟ فالجواب: أنا وأنت لسنا معصومين، وكل بني آدم خطاء، ورحمة الله على الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي كان يقول:

وعينك إن أبدت إليك معايباًلسانك لا تذكر به عورة امرئ

 

فصنها وقل يا عين للناس أعينفكلُّك عورات وللناس ألسن

ولكن لماذا شاء ربي عز وجل أن يطلعك على عورة من عورات المسلمين؟ مع أنه قادر على ستر الجميع، وكم من عورة سترها الله، فلماذا كشفت عورة هذا الإنسان، واطلع عليها زيد أو عمرو من الناس؟ هذا نوع من أنواع الاختبار والابتلاء من الله عز وجل. أنت في خلواتك تعرف ماذا تفعل، وربك {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} وأنت تعلم ما بداخلك وما يجول في خاطرك، وربما وأنت في مجلس الطاعة لله وفي بيت من بيوت الله ربما تشرِّق وتغرِّب في خواطرك، والواردات وأحاديث النفس، وربما بأشياء تسود الوجه والعياذ بالله.

ربي عز وجل يستر عن أعين الناس هذه الخواطر التي تمر في قلبك، ويستر عليك ما تفعل في خلواتك عندما تكون لوحدك ما يطلع عليك إلا الله عز وجل. ألا يوجد أحد منّا شرّق وغرّب ولم يره أحد إلا الله، وستره ربي عز وجل؟ فإذا كنت كذلك وأطلعك الله على عورة من عورات الناس فقل: يا رب سلِّم، لأن الذي سترك وهتك الستر عن أخيك، قادر على أن يقلب الآية، ويعيد الستر على ذلك العبد ويهتك الستر عنك لا قدر الله، لذلك نقول: يا ربنا سترتنا فيما مضى من أعمارنا فلا تهتك الستر عنا فيما بقي منها. يا ربنا سترتنا في الدنيا فلا تفضحنا في الآخرة.

من يريد الستر الثمن في يده، فإذا أردت دوام ستر الله عز وجل عليك فاستر عورات المسلمين إذا أطلعك الله عليها، وستر عورات المسلمين خيرها عائد عليك بداية، لأنه من سَتَرَ سُتِرَ، ومن هتك هُتِك. فإذا أطلقت للسانك العنان بنبش عورات المسلمين، فقد أذنت للمسلمين أن يطلقوا ألسنتهم في عوراتك. ولذلك فعندما تعرف نفسك بأنك لست بمعصوم، وأنك خطاء، وأطلعك الله على عورة من العورات، فبعد نصح هذا الإنسان قُلْ: يا رب تب عليَّ وعليه، ولا تهتك الستر عني، لذلك ورد في الأثر: الذنب شؤم على غير صاحبه. الذنب في حق الإنسان المسلم ليس بمشكلة، لأن كل بني آدم خطّاء، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بمن يذنب ويستغفر فيغفر الله عز وجل له، وإلا كيف سيظهر اسم الله الغافر والغفور والغفار، لولا وجود العبد المذنب الخطاء.

أمر طبيعي أن الذنب ليس بغريب على الإنسان، فكلنا لسنا بمعصومين إلا الأنبياء عليهم السلام، فإذاً الذنب ليس شؤماً على العبد بشكل عام، إنما الذنب شؤم على غير صاحبه، فإذا أذنب عبد وقال: يا رب، قال: لبيك عبدي، قال: يا رب إني عبد مذنب، فيقول ربنا عز وجل: علم عبدي بأن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب عليه، غفرت لعبدي. أذنب ثم اصطلح مع الله فصار قريباً من الله، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً، فالذنب شؤم على غير صاحبه، لأن الذنب إذا جعل قلبك منكسراً إلى الله صرت قريباً من الله، والله يقول: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً * إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً}.

إذاً فكيف الذنب شؤماً على غير صاحبه؟ أذنب هذا العبد ذنباً واصطلح مع الله، وجعل الله ذنبه حسنة، وصار مقرباً عند الله عز وجل، وإذا رآه الناس قالوا: هذا صاحب المعاصي والذنوب، وهذا الذي له علاقات مع النساء، وهذا الذي يأكل الربا، وهذا الذي يرتشي، وهكذا... هل أنت على يقين بأن هذا العبد مصرٌّ؟ وهل أنت على يقين بأنه لم يتب؟ وأنت إن رأيته ورضيت بذنبه فأنت شريك له في المعصية ولو لم تفعل الذنب، ولأنك إن ذكرت ذنبه فقد اغتبته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الغيبة؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: الغيبة ذكرك أخاك بما يكره. قالوا: يا رسول الله، أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته. إذاً فالذنب شؤم على غير صاحبه، إن شمتَّ به وعيَّرته وقعت في الذنب، لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك.

لذلك من مصلحتك أن تسمع قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يروي الإمام مسلم وأبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة). وتصور الفارق بين ستر العبد على العبد وستر الله على العبد. ماذا تفعل أنت إن سترت، لكن تصور أن ربي يسترك، وإن سترك الله أيستطيع أحد من خلق الله أن يفضحك؟ وإذا أراد الله أن يفضح العبد أيستطيع أحد ستره؟

أيها الإخوة: تدبروا جيداً قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، قال تعالى: {وغلقت الأبواب وقالت هيت لك} الذي أغلق الأبواب امرأة العزيز، وهي مع سيدنا يوسف فقط، أيتصور أن تفضح امرأة العزيز نفسها؟ لا تفضح نفسها، وسيدنا يوسف عليه السلام أيضاً لن يتكلم في الموضوع، ولكن إذا أراد الله فضح العبد يفضحه من حيث يدري ومن حيث لا يدري، {وغلقت الأبواب}، وفي اليوم التالي: {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً}، فإذا أراد الله ستر العبد يستره، وإذا أراد فضحه يفضحه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) رواه الترمذي. فإذا أردت أن تتبع عوراتي وقد أقفلت الباب على نفسي فهل تستطيع الاطلاع علي؟ وإن أضمرت في نفسي لا قدر الله سوءاً فهل تستطيع الاطلاع عليه؟ لا أبداً، وأما ربنا جل وعلا فإن تتبع عورة هذا العبد فأين سيفلت من قبضة الله عز وجل. فتتبع العورات ليس من شأن الإنسان المؤمن، وإنما هو من شأن المنافق، لذلك فمن مصلحتنا ستر عورات المسلمين، أن أرى المنكر وأستر، ولكن بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنك إن أطلعك الله على عورة من العورات فنصحت صاحب العورة وسترت عليه، فهذا سيؤدي إلى أن يصطلح حاله مع الله. أما إذا أطلعك الله على عورة من عوراته وبدأت تفضحه في هذه الحالة، فأنت تكون عوناً للشيطان على أخيك، فلا تكونوا عوناً للشيطان على إخوانكم أيها الإخوة.

وأختم حديثي بقصة ذكرها عالم من علماء المسلمين من خطباء دمشق، هذا العالم رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: أبلغ فلاناً أنه رفيقي في الجنة، ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حق.

ذهب إلى الرجل وقال له: لك عندي بشارة، لكن أريد أن أعرف قصتك. قال: ما هي البشارة؟ قال: تعطيني عهداً إن أخبرتك البشارة أن تخبرني بقصتك؟ قال: لك العهد.

قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ويقول لي: بلِّغ فلاناً وبشره بأنه رفيقي في الجنة. قال: طالما أنك أتيت بهذه البشارة فسأخبرك.

قال: تزوجت امرأة، وعندما دخلت عليها قالت لي: استر عليّ فإني حامل من زنا! فماذا سيفعل؟!

ستر العورات أيها الإخوة، العورة موجودة وليست افتراءً وكذباً، وتقر المرأة وتقول له: استر علي.

قال: سأجعل هذا الأمر لله، وسافر بزوجته لا يريد أن يطلقها وستبقي في عصمته وسيستر عليها.

غاب حتى وضعت حملها، وعندما رجع إلى بلدته، ومحافظة منه على الولد لن يرميه، فذهب إلى صلاة الفجر، ولما دخل الناس إلى صلاة الفجر، حمل الطفل فوضعه على باب المسجد. ثم دخل فصلى وخرج مسرعاً وقال: يا ناس، طفل صغير. ثم قال: عهد علي أن أتبني هذا الطفل وأتعهد بتربيته، فصار الولد محسوباً عليه، ولم يبعده عن أمه التي حملت به، وربى هذا الطفل وستر على هذه المرأة، فكان جزاؤه عندما ستر أن يكون رفيقاً مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، لأن الله عز وجل يقول: {ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب ويخلد فيه مهاناً * إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً}.

وما المانع أن تتوب الزانية أو يتوب الزاني أيها الإخوة؟ ومن الذي يحول بين العبد وربه سبحانه وتعالى؟

أيها الإخوة: لنعاهد الله عز وجل أن نكف ألسنتنا عن الناس، لنتق الله عز وجل في أعراض المسلمين، فمن فعل ذلك فإنما يفعل ذلك لمصلحته هو. وقد يخطر ببالكم سؤال: كيف ستر هذا الرجل على المرأة، وهل العقد صحيح؟

الجواب: نعم العقد صحيح، فالعقد على الزانية الحامل صحيح، ولكن لا يقرب هذه المرأة حتى تضع حملها. ومن ستر على هذه المرأة من باب أولى أنه يعلم هذا الحكم.

لذلك فعهدنا اليوم هو ستر عورات المسلمين، اللهم أعنا على ذلك برحمة منك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.