68ـ مع الحبيب المصطفى: صور من غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (2)

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

68ـ صور من غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: قد يَتَبادَرُ إلى ذِهنِ كَثيرٍ من النَّاسِ أنَّ الغَضَبَ صِفَةُ نَقصٍ في الإنسانِ، وأنَّهُ مَذمومٌ في سائِرِ أحوالِهِ، وحَقيقَةُ الأمرِ غَيرُ ذلكَ، فالغَضَبُ يَكونُ مَحموداً ويَكونُ مَذموماً، ومَرجِعُ ذلكَ إلى الأسبابِ التي تَدفَعُ الإنسانَ إلى الغَضَبِ، وإلى الأهدافِ التي يُريدُها الغاضِبُ.

فإن كانَ السَّبَبُ والهَدَفُ مَحموداً، كانَ الغَضَبُ مَحموداً، وإن كانَ السَّبَبُ والهَدَفُ مَذموماً، كانَ الغَضَبُ مَذموماً.

الأنبِياءُ والمُرسَلونَ عَليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانوا يَغضَبونَ، ولكن كانَ سَبَبُ غَضَبِهِم الغِيرَةَ على دِينِ الله تعالى، وهَدَفُهُم رُجوعُ العِبادِ إلى المنهَجِ الرَّبَّانِيِّ الذي جاءَ به به الأنبِياءُ والمُرسَلونَ عَليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ.

صُوَرٌ من غَضَبِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَغضَبُ غِيرَةً على شَرعِ الله تعالى، وزَجراً لمن اجتَرَأَ على مَعصِيَةِ الله تعالى، ومن صُوَرِ غَضَبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أولاً: «لا تُعَذِّبوا بِعَذابِ الله»:

أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام أحمد والنسائي عَنْ ابنِ مَسعودٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْنَا بِقَرْيَةِ نَمْلٍ فَأُحْرِقَتْ.

فغضب النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ».

وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ كانَ أذِنَ في التَّحريقِ بالنَّارِ، ثمَّ نهى عنهُ، كما جاءَ في صحيحِ الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ وَقَالَ لَنَا: «إِنْ لَقِيتُمْ فُلَاناً وَفُلَاناً ـ لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا ـ فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ.

قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَاناً وَفُلَاناً بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا».

وفي روايةٍ للإمام البخاري كذلك عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ الله».

أيُّها الإخوة الكرام: إذا كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ لأنَّ قَريَةً من النَّملِ حُرِقَت، فكيفَ إذا كانَ البَشَرُ يُحرِقونَ بأسلِحَةِ دُعاةِ الإنسانِيَّةِ؟ وما هوَ قائِلٌ هذا العَبدُ لِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ يومَ القِيامَةِ؟

ثانياً: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي:

أيُّها الإخوة الكرام: جاءَ في الحديثِ الصَّحيحِ المتَّفق عليه عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ ابْنَ الْأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ.

فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا الَّذِي لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي.

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً».

ثُمَّ قَامَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالاً مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلَّانِي اللهُ، فَيَأْتِي أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقاً؟ فوالله لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا جَاءَ اللهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا فَلَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ».

ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ وقال: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ».

أيُّها الإخوة الكرام: الرِّشوَةُ فَخُّ المروءَةِ، ومِصيَدَةُ الأمانَةِ، وغَرَقُ الدِّيانَةِ، بِغُشُوِّها تُصابُ مَصالِحُ الأمَّةِ بالشَّلَلِ، وما دَخَلَتِ الرِّشوَةُ قَلباً إلا أظلَمَتْهُ، ولا خالَطَت عَمَلاً إلا أفسَدَتْهُ، ولا نِظاماً إلا خَرَّبَتْهُ، وما فَشَت في أمَّةٍ إلا حَلَّ فيها الغِشُّ مَحَلَّ النُّصحِ، والخِيانَةُ مَحَلَّ الأمانَةِ، والظُّلمَ بَدَلَ العَدْلِ، فهيَ تَهدِرُ الحُقوقَ، وتُعَطِّلُ المَصالِحَ، وتُجَرِّئُ الظَّلَمَةَ والمُفسِدينَ.

وأهلُ الرِّشوَةِ يُصَوِّرونَ باطِلَهُم صُوَراً مُتَلَوِّنَةً، فهذهِ هَدِيَّةٌ، وتِلكَ إكرامِيَّةٌ، وقد ذَكَرَ اللهُ تعالى في كِتابِهِ العَظيمِ اليَهودَ بِخُبثِ النِّيَّةِ، وفَسادِ الطَّوِيَّةِ، وذَهابِ المروءَةِ، وانعِدامِ الضَّميرِ، ذلكَ أنَّهُم عَشِقوا المالَ، وآثَروا الدُّنيا، ونَسوا حَظَّ الله تعالى، فأنساهُمُ اللهُ سُبحانَهُ وتعالى أنفُسَهُم، وأوقَعَهُم في عَواقِبِ ما قَدَّمَت أيديهِم، فهُم قُساةُ القُلوبِ،  كَرِهوا الشَّرائِعَ، وأحَبُّو الكَذِبَ والخِداعَ والغِشَّ والزُّورَ، قال تعالى فيهِم: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾.

قال الحَسَنُ البَصرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هُم حُكَّامُ اليَهودِ، يَستَمِعونَ الكَذِبَ مِمَّن يأتيهِم بِرِشوَةٍ.

وقال تعالى في حَقِّهِم: ﴿وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾.

وروى أبو داود عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: لِتَحذَرِ الأمَّةُ من الأفعالِ التي تُغضِبُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّ ما يُغضِبُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُغضِبُ الرَّبَّ تبارَكَ وتعالى، وإذا غَضِبَ اللهُ تعالى، وغَضِبَ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على العَبدِ فقد هَلَكَ.

فاحذَروا من إيذاءِ النَّاسِ، وخاصَّةً التَّعذيبُ للخَلقِ بالنَّارِ وبالحَرقِ.

واحذَروا من أكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطلِ، واسمَعوا إلى حديثِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهوَ يُخاطِبُ النَّاسَ جَميعاً، فَيَقولُ:

«لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ».

اللَّهُمَّ وَفِّقنا لمرضاتِكَ ومَرضاةِ رَسولِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 22 /شوال/1434هـ، الموافق: 29 /آب/ 2013م