83 ـ كلمة شهر محرم 1435هـ : أليس هذا أصلاً من أصول التوحيد؟

 

 مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبادَ الله، في هذهِ الأزمَةِ اعتَمَدَ الكَثيرُ من النَّاسِ عل الأسبابِ المادِّيَّةِ المَحضَةِ، وتَعَلَّقَ النَّاسُ بالنَّاسِ، وشَكا بَعضُهُم إلى بَعضٍ، وظَنُّوا أنَّ الخَلقَ على كُلِّ شَيءٍ قادِرونَ، لذلكَ أصابَهُمُ القَلَقُ والأرَقُ والاضطِرابُ، وعَمَّ الهَلَعُ والخَوفُ في قُلوبِ الكَثيرِينَ منهُم.

فكم من عَينٍ باكِيَةٍ، وقَلبٍ حَزينٍ؟

وكم من هَمٍّ وغَمٍّ دَخَلَ القُلوبَ حتَّى أوصَلَها إلى اليَأسِ؟

وكم من عَزيزٍ صارَ ذَليلاً، وغَنِيٍّ صارَ فَقيراً، وسَليمٍ صارَ مَريضاً؟

لمن نَشكو ونَمُدُّ أيدِيَنا؟

يا عِبادَ الله، ونحنُ نَعيشُ في هذهِ الأزمَةِ التي طاشَت فيها العُقولُ، وتَمَزَّقَت فيها أواصِرُ المَوَدَّةِ والرَّحمَةِ، لمن نَشكو ونَمُدُّ أيدِيَنا؟ شَكَونا ومَدَدنا أيدِيَنا إلى النَّاسِ، فزادَ الهَمُّ هَمَّاً، والغَمُّ غَمَّاً، والكَربُ كَرباً، وما ذاكَ إلا لأنَّ الكَثيرَ من النَّاسِ نَسِيَ أو تَناسى قَولَ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله واللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد﴾.

يا عِبادَ الله، السَّبيلُ للتَّخَلُّصِ من الهَمِّ والغَمِّ والكَربِ، والضَّعفِ والفُتورِ، والخَوفِ والأرَقِ والقَلَقِ، والفَقرِ والذُّلِّ، هوَ أن نَضَعَ حَوائِجَنا في بابِ الغَنِيِّ الذي لا يَفتَقِرُ، في بابِ القَوِيِّ الذي لا يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، في بابِ الذي يُجيرُ ولا يُجارُ، في بابِ الذي يَقولُ للشَّيءِ كُن فَيَكونُ، في بابِ الذي إذا قَضى أمراً لا يُرَدُّ قَضاؤُهُ، في بابِ الذي يَقولُ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾. ويَقولُ: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عن الله عزَّ وجلَّ.

فيا أصحابَ الحَوائِجِ ـ وكُلُّنا أصحابُ حَوائِجَ ـ لا تَشكوا حَوائِجَكُم لِغَيرِ الله، ولا تَمُدُّوا أيدِيَكُم لِغَيرِ الله، يا أصحابَ الهَمِّ والغَمِّ والكَربِ، لماذا لا نَرفَعُ أيدِيَنا إلى الله تعالى في الدُّعاءِ؟ وحاشاهُ أن يَرُدَّ عَبداً دَعاهُ.

مُدُّوا أيدِيَكُم إلى من يَقولُ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾. لماذا ضَعُفَتِ الصِّلَةُ بالله تعالى، وقَلَّ الاعتِمادُ عَلَيهِ، وهوَ القائِلُ: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾. والقائِلُ: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون﴾؟

أينَ نحنُ من الشَّكوى لله تعالى؟

يا عِبادَ الله، أينَ نحنُ من الشَّكوى لله تعالى؟ أينَ نحنُ من الإلحاحِ والتَّضَرُّعِ إلى الله تعالى؟

 يا عِبادَ الله، لقد أعطانا اللهُ تعالى نَماذِجَ عن الدَّاعينَ، وكيفَ استَجابَ لهُم عِندَما انقَطَعَتِ الأسبابُ، وغُلِّقَتِ الأبوابُ.

أولاً: هذا سيِّدُنا نوحٌ عَلَيهِ السَّلامُ، يَقولُ اللهُ تعالى في حَقِّهِ: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُون * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيم﴾. ويَقولُ: ﴿وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيم * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾.

ثانياً: هذا سيِّدُنا أيُّوبُ عَلَيهِ السَّلامُ، يَقولُ اللهُ تعالى في حَقِّهِ: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِين﴾.

ثالثاً: هذا سيِّدُنا يونُسُ عَلَيهِ السَّلامُ، يَقولُ اللهُ تعالى في حَقِّهِ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين﴾.

رابعاً: هذا سيِّدُنا زَكَرِيَّا عَلَيهِ السَّلامُ، يَقولُ اللهُ تعالى في حَقِّهِ: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِين * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾.

خامساً: هذا سيِّدُنا يوسُفُ عَلَيهِ السَّلامُ، يَقولُ اللهُ تعالى في حَقِّهِ: ﴿وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِين * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾.

لماذا استَجابَ اللهُ تعالى لهُم؟

يا عِبادَ الله، ربُّنا عزَّ وجلَّ استَجابَ لهُم، وأخرَجَهُم من الضِّيقِ والغَمِّ والكَربِ العَظيمِ، ولكن بَيَّنَ ربُّنا عزَّ وجلَّ لنا لماذا استَجابَ لهُم، فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين﴾.

يا عِبادَ الله، هل نحنُ نُسارِعُ في الخَيراتِ، وخاصَّةً في هذهِ الأزمَةِ؟ وهل نحنُ نَدعُوا اللهَ تعالى رَغَباً ورَهَباً؟ وهل نحنُ لهُ خاشِعونَ؟

يا أصحابَ الحوائِجِ ـ وكُلُّنا أصحابُ حَوائِجَ ـ إن أرَدنا أن يَستَجيبَ اللهُ تعالى دُعاءَنا، فَعَلَينا بالمُسارَعَةِ في الخَيراتِ، والدُّعاءِ لهُ رَغَباً ورَهَباً، والخُشوعِ لهُ سُبحانَهُ وتعالى.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عبادَ الله، الطَّريقُ للخُروجِ من هذهِ الأزمَةِ، وحَقنِ الدِّماءِ، والحِفاظِ على الأعراضِ والأموالِ والمُمتَلَكاتِ، هيَ المُسارَعَةُ في الخَيراتِ، وأن نَبُثَّ بَعدَ ذلكَ شَكوانا إلى تعالى، لأنَّ بَثَّ الشَّكوى إليهِ تُشعِرُ بالقُوَّةِ والعِزَّةِ والمَنعَةِ، وتُشعِرُ العَبدَ بأنَّهُ يَأوي إلى رُكنٍ شَديدٍ، أليسَ هذا هوَ أصلاً من أصولِ التَّوحيدِ؟

أمَّا بَثُّ الشَّكوى والحُزنِ للنَّاسِ، فَتُشعِرُ بالضَّعفِ والذُّلِّ والهَوانِ والتَّبَعِيَّةِ.

يا عِبادَ الله، لا تَشكوا حَوائِجَكُم لِغَيرِ الله تعالى، ولا تَمُدُّوا أيدِيَكُم لِغَيرِ الله تعالى، وأكثِروا من الدُّعاءِ، وقولوا من جُملَةِ الدُّعاءِ: يا وَلِيَّ نِعمَتِنا، ويا مَلاذَنا عِندَ كُربَتِنا، تَوَلَّنا كما تَوَلَّيتَ عِبادَكَ الصَّالِحينَ، واجعَلْ كَيدَ من كادَنا بَرداً وسَلاماً عَلَينا، كما جَعَلتَ النَّارَ بَرداً وسَلاماً على سيِّدِنا إبراهيمَ عَلَيهِ السَّلامُ. اللَّهُمَّ آمين. 

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 1/ محرم /1435هـ، الموافق: 4/ تشرين الثاني / 2013م