82 ـ كلمة شهر ذي الحجة 1434هـ : علاج الأرق والقلق

 

 82 ـ كلمة شهر ذي الحجة 1434هـ : علاج الأرق والقلق

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: النَّومُ وراحَةُ البالِ من أعظَمِ نِعَمِ الله تعالى على عَبدِهِ، ولا تُعرَفُ قِيمَةُ هذهِ النِّعمَةِ إلا إذا فَقَدَها العَبدُ، وأصَابَهُ الأرَقُ، ودَبَّ فيهِ القَلَقُ، لذا كانَ النَّومُ آيَةً من آياتِ الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾.

يا عبادَ الله، الأمَّةُ تَعيشُ هذهِ الأزمَةَ، وكانَ من نَتائِجِها أن ادلَهَمَّتِ الخُطوبُ، واقتَحَمَتِ الكُروبُ قُلوبَ العِبادِ، فطارَ النَّومُ، وزالَتِ الرَّاحَةُ، وتَصاعَدَ القَلَقُ، وانعَكَسَ ذلكَ على جَسَدِ الإنسانِ وصِحَّتِهِ.

الأرَقُ المَحمودُ:

أيُّها الإخوة الكرام: قد يَكونُ الأرَقُ والقَلَقُ مَحموداً، فَيَأرَقُ العَبدُ أو يَقلَقُ خَشيَةَ فَواتِ واجِبٍ، أو خَشيَةَ الوُقوعِ في حَرامٍ، أو لِتَقصيرٍ في حَقِّ الله تعالى أو في حَقِّ عِبادِهِ، أو خَشيَةَ أن يُحبَطَ عَمَلُهُ.

يَقولُ الحَسَنُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: المُؤمِنُ من يَعلَمُ أنَّ ما قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ كما قالَ، والمُؤمِنُ أحسَنُ النَّاسِ عَمَلاً، وأشَدُّ النَّاسِ خَوفاً، لو أنفَقَ جَبَلاً من مالٍ ما أمِنَ دونَ أن يُعايَنَ، ولا يَزدادُ صَلاحاً وبِرَّاً وعِبادَةً إلا ازدادَ فَرقاً، يَقولُ: لا أنجو، لا أنجو. من كتاب الزهد والرقائق.

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾.

المُؤمِنُ يُصيبُهُ الأرَقُ والقَلَقُ في أيَّامِ الأزَماتِ من أن يَقَعَ في ظُلمِ العِبادِ، أو أن يُفتَنَ في دِينِهِ، أو أن تَكونَ عاقِبَتُهُ وَخيمَةً، فهوَ يَرجو حُسنَ الخَاتِمَةِ، ويَخافُ سُوءَها.

هذا القَلَقُ والأرَقُ المَحمودُ، هل هوَ حالُ كُلِّ واحِدٍ منَّا، أم القَلَقُ والأرَقُ المَذمومُ هوَ حالُنا؟

الأرَقُ المَذمومُ:

أيُّها الإخوة الكرام: هُناكَ أرَقٌ وقَلَقٌ مذمومٌ، ويَتَوَلَّدُ هذا الأرَقُ والقَلَقُ المَذمومُ من أربَعَةِ أشياءَ:

أولاً: الخَوفُ على الحَياةِ من أن تَنتَهي.

ثانياً: الخَوفُ على الرِّزقِ من أن يَذهَبَ.

ثالثاً: الخَوفُ من وُقوعِ مَكروهٍ.

رابعاً: الخَوفُ من فَواتِ شَيءٍ مَحبوبٍ.

يا عبادَ الله، هذهِ الأُمورُ الأربَعَةُ التي تُوَلِّدُ عِندَ الإنسانِ الأرَقَ والقَلَقَ والاضطِرابَ، ولكن الإنسانُ المُؤمِنُ يُعالِجُ هذهِ الأُمورَ الأربَعَةَ بالإيمانِ الذي يَجعَلُ القَلبَ مُطمَئِنَّاً. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب﴾.

أولاً: الإيمانُ يُطَمئِنُكَ على حَياتِكَ:

يا عَبدَ الله، حَياتُكَ لَيسَ بِيَدِ أحَدٍ من الخَلقِ، بل هيَ بِيَدِ الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾. فلو اجتَمَعَ عَلَيكَ أهلُ الأرضِ والسَّماءِ على أن يُقَدِّموا أجَلَكَ لَحظَةً واحِدَةً ما استَطاعوا إلى ذلكَ سبيلاً.

يَقولُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: اُطلُبوا المَوتَ تُوهَب لكُمُ الحَياةُ.

فلا تَأرَقْ ولا تَقلَقْ فإنَّ حَياتَكَ مَضمونَةٌ، وهيَ بِيَدِ الله تعالى.

ثانياً: الإيمانُ يُطَمئِنُكَ على رِزقِكَ:

يا عَبدَ الله، رِزقُكَ مَقسومٌ ومَكفولٌ، قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. وقال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين﴾.

فلا تَأرَقْ ولا تَقلَقْ على رِزقِكَ، وتَوَكَّلْ على الله تعالى، واسمَعْ قَولَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لو أنَّكُم تَتَوَكَّلونَ على الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرزُقُ الطَّيرَ، تَغدو خِماصاً وتَروحُ بِطاناً» رواه الإمام أحمد والترمذي عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

ويَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَفَثَ رُوحُ القُدُسِ في رُوعي أنَّ نَفساً لن تَخرُجُ من الدُّنيا حتَّى تَستَكمِلَ أجَلَها، وتَستَوعِبَ رِزقَها، فأجمِلوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّكُمُ استِبطاءُ الرِّزقِ أن تَطلُبوهُ بِمَعصِيَةِ الله، فإنَّ اللهَ لا يُنالُ ما عِندَهُ إلا بِطاعَتِهِ» رواه الطَّبرانِيُّ في الكبيرِ عن أبي أُمامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

فلا تَأرَقْ ولا تَقلَقْ على رِزقِكَ، فهوَ مَقسومٌ ومَكفولٌ.

ثالثاً: الإيمانُ يُطَمئِنُكَ إذا وَقَعَ عَلَيكَ مَكروهٌ:

يا عَبدَ الله، إذا وَقَعَ عَلَيكَ مَكروهٌ فاعلَم أنَّهُ لكَ لا عَلَيكَ، قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون﴾.

وأنَّكَ مَأجورٌ عَلَيهِ إن صَبَرتَ أو لم تَصبِرْ، فإذا لم تَصبِرْ على المَكروهِ اعلَم بأنَّهُ كَفَّرَ عنكَ من سَيِّئاتِكَ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ وعن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «ما يُصيبُ المُسلِمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حُزنٍ ولا أذىً ولا غَمٍّ حتَّى الشَّوكَةَ يُشاكُها إلا كَفَّرَ اللهُ بها من خَطاياهُ».

وإن صَبَرتَ عَلَيهِ أكرَمَكَ اللهُ تعالى بأجرِ الصَّابِرينَ، قال تعالى: ﴿أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾.

فلا تَأرَقْ ولا تَقلَقْ إذا وَقَعَ عَلَيكَ مَكروهٌ، فأنتَ مأجورٌ إن شاءَ اللهُ تعالى.

رابعاً: الإيمانُ يُطَمئِنُكَ إذا فاتَكَ شَيءٌ مَحبوبٌ:

يا عَبدَ الله، اِطمَئِنَّ بأنَّهُ إذا فاتَكَ خَيرٌ بِتَقديرِكَ أنَّهُ خَيرٌ، اعلَم أنَّ هذا من رَحمَةِ الله تعالى فيكَ، لأنَّ هذا الخَيرَ قد يَحمِلُ في طَيَّاتِهِ شَرَّاً لكَ وأنتَ لا تَعلَمُ، قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ واللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُون﴾.

تَذَكَّرْ، هل كانَ المالُ خَيراً في حَقِّ قارونَ وفِرعَونَ؟

وهل كانَ المُلكُ خَيراً في حَقِّ فِرعَونَ ونُمروذَ؟

وهل كانَتِ القُوَّةُ خَيراً في حَقِّ عادٍ؟

وهل كانَ العِلمُ خَيراً في حَقِّ بِلعامَ بنِ باعوراءِ؟

فلا تَأرَقْ ولا تَقلَقْ على خَيرٍ إذا فاتَكَ، يَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إذا أحَبَّ اللهُ عَبداً حَماهُ الدُّنيا كما يَحمي أحَدُكُم مَريضَهُ الماءَ» رواه الحاكم عن قَتادَةَ بنِ النُّعمانِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عَبدَ الله، لا تَأرَقْ ولا تَقلَقْ على نَفسِكَ إن كُنتَ تَقِيَّاً وتَقولُ قَولاً سَديداً، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾.

ولا تَأرَقْ ولا تَقلَقْ على أولادِكَ إن كُنتَ تَقِيَّاً، قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾.

ولا تَأرَقْ ولا تَقلَقْ إذا كُنتَ معَ الله تعالى وحَفِظتَ حُدودَهُ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «اِحفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ».

يا عبادَ الله، أرَقُ وقَلَقُ أكثَرِ النَّاسِ على دُنياهُم، وهذا هوَ الأرَقُ المَذمومُ، ولكن أينَ أرَقُ وقَلَقُ العِبادِ على دِينِهِم إذا فاتَهُم؟

هل رَأيتَ من يأرَقُ ويَقلَقُ أن تَفوتَهُ صَلاةُ الفَجرِ، أو يَخافُ فَواتَ طاعَةٍ، أو وُقوعاً في مَعصِيَةٍ؟

هل رَأيتَ من يأرَقُ ويَقلَقُ على طَاعَتِهِ أن لا تَكونَ مَقبولَةً عِندَ الله تعالى؟

هل رَأيتَ من يأرَقُ ويَقلَقُ إذ ظَلَمَ العِبادَ بِسَفْكِ دِمائِهِم، أو سَلْبِ أموالِهِم، أو انتِهاكِ أعراضِهِم؟

اللَّهُمَّ اجعَل هَمَّنا رِضاكَ يا ربَّ العالمينَ. آمين. 

أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

السبت: 1 /ذو الحجة /1434هـ، الموافق: 5/تشرين الأول / 2013م