104ـ مع الحبيب المصطفى: «إني رسول الله إليكم جميعاً»

 

مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

104ـ «إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من أعظَمِ حُقوقِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على أُمَّتِهِ بِشِقَّيها ـ أُمَّةِ الدَّعوَةِ وأُمَّةِ الاستِجابَةِ ـ أن يُؤمِنوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ خاتَمُ الأنبِياءِ والمُرسَلينَ، فلا نَبِيَّ بَعدَهُ، قال تعالى: ﴿ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾.

وقد وَرَدَت قِرَاءَتانِ في الآيَةِ؛ الأولى بالفَتحِ ﴿خَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾. بِمَعنى أنَّهُم به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خُتِموا.

والثَّانِيَةُ بالكَسرِ ﴿خَاتِمَ النَّبِيِّينَ﴾. أي أنَّهُ جاءَ آخِرَهُم، بِمَعنى أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَتَمَهُم.

وأن يُؤمِنوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ أُرسِلَ للنَّاسِ كافَّةً، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلا هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون﴾.

السَّعيدُ من آمَنَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: السَّعيدُ من النَّاسِ من آمَنَ به وصَدَّقَهُ واتَّبَعَ النُّورَ الذي أُنزِلَ مَعَهُ، والشَّقِيُّ من كَفَرَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وأعرَضَ عنهُ، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾.

ولِكُلِّ وَاحِدٍ من الفَريقَينِ مَنزِلٌ في الآخِرَةِ يَستَقِرُّ فيهِ، فالأوَّلُ يَكونُ في نَعيمٍ دَائِمٍ، والثَّاني يَكونُ في عَذابٍ دَائِمٍ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيد * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيق * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذ﴾.

الوَاجِبُ على أُمَّةِ الدَّعوَةِ نَحوَ نَبِيِّها:

أيُّها الإخوة الكرام: الوَاجِبُ على الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ بِشِقَّيها ـ أُمَّةِ الدَّعوَةِ وأُمَّةِ الاستِجابَةِ ـ أن تُؤمِنَ بِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأن تَنصُرَهُ وتَنصُرَ دِينَهُ، وأن تَفدِيَهُ بِكُلِّ ما تَملِكُ.

وإن قالَ قائِلٌ: هذا الوَاجِبُ في حَقِّ أُمَّةِ الاستِجابَةِ لا خِلافَ فيهِ، أمَّا في حَقِّ أُمَّةِ الدَّعوَةِ التي ما زالَت كافِرَةً به فمن أينَ أتى هذا الوُجوبُ؟

أقولُ: أتى هذا الوَاجِبُ على أُمَّةِ الدَّعوَةِ من عِدَّةِ وُجوهٍ:

الأوَّلُ: أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَحمَةٌ للعَالَمينَ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ عاقِلٍ في الدُّنيا أن يُؤمِنَ بِسَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّ اللهَ تعالى أرسَلَهُ رَحمَةً للعَالَمينَ جَميعاً، فهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَحمَةٌ من الله تعالى للعَبدِ الكافِرِ في حَياتِهِ الدُّنيا، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾.

لقد قالَ عنهُ المُشرِكونَ: ساحِرٌ، كَذَّابٌ، مَجنونٌ، يَأتيهِ الجِنُّ، طَلَبوا أن يُعالِجوهُ إن كانَ به مَسٌّ، وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ معَ كُلِّ هذا يَتَقَطَّعُ من دَاخِلِهِ أسىً وحُزناً وحَسرَةً عَلَيهِم، حتَّى عاتَبَهُ رَبُّنا عزَّ وجلَّ بِقَولِهِ: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾. وبِقَولِهِ: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾. وبِقَولِهِ: ﴿وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾.

وأخرجَ الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَاراً، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَن النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي».

أيُّها الإخوة الكرام: بالله عَلَيكُم، ألَيسَ من الوَاجِبِ على كُلِّ عاقِلٍ من البَشَرِ أن يُؤمِنَ بهذا النَّبِيِّ الكَريمِ الذي أرسَلَهُ اللهُ تعالى رَحمَةً للعَالَمينَ؟ ألَيسَ من الحَماقَةِ الكُفرُ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَضْلاً عن مُحارَبَتِهِ ومُحارَبَةِ شَرعِهِ الشَّريفِ الذي أكرَمَنا اللهُ عزَّ وجلَّ به؟

الثَّاني: أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لم يُبعَثْ لَعَّاناً:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ عاقِلٍ في الدُّنيا أن يُؤمِنَ بِسَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّهُ ما كانَ يَدعو على أُمَّتِهِ بِشَكلٍ عامٍّ، ولو كَفَرَت به وآذَتْهُ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً».

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحَقٍّ هوَ الرَّحمَةَ عَينَها، فقد روى البيهقي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

 قال : «إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً، ولم أُبعَثْ عَذَاباً».

بل كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنهى عن اللَّعنِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّاناً».

أيُّها الإخوة الكرام: بالله عَلَيكُم، ألَيسَ من الوَاجِبِ على كُلِّ عاقِلٍ من البَشَرِ أن يُؤمِنَ بهذا النَّبِيِّ الكَريمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

الثَّالِثُ: أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصٌ على العِبادِ جَميعاً:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ عاقِلٍ في الدُّنيا أن يُؤمِنَ بِسَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّهُ كانَ حَريصاً على الجَميعِ أكثَرَ من حِرصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا على نَفسِهِ.

أخرَجَ الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِن النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي» وَبَكَى.

فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ ـ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ ـ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟

فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ ـ وَهُوَ أَعْلَمُ ـ.

فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ.

أيُّها الإخوة الكرام: بالله عَلَيكُم، ألَيسَ من الوَاجِبِ على كُلِّ عاقِلٍ من البَشَرِ أن يُؤمِنَ بهذا النَّبِيِّ الكَريمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: السَّعيدُ حَقَّاً من آمَنَ بهذا النَّبِيِّ الكَريمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وامتَثَلَ أمرَهُ، واتَّخَذَ سَبيلَهُ سَبيلاً لهُ، وإلا فهوَ نادِمٌ لا مَحالَةَ، قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً﴾. وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾.

السَّعيدُ من كانَ من أُمَّةِ الاستِجابَةِ قَولاً وفِعلاً، والشَّقِيُّ من كانَ من أُمَّةِ الدَّعوَةِ وماتَ كافِراً ومُعرِضاً عن سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ أكرِمْنا بِشَرَفِ الاتِّباعِ والاقتِداءِ بهذا النَّبِيِّ العَظيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يا من أكرَمْتَنا وجَعَلْتَنا من أُمَّةِ الاستِجابَةِ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 19/ربيع الأول/1435هـ، الموافق: 20/كانون الثاني / 2014م