السؤال :
يُوجَدُ شَابٌّ مُلْتَزِمٌ بِدِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّهُ أَحْيَانًا يَقَعُ في المَعْصِيَةِ، فَيَقُولُ لَهُ أَحَدُهُمْ: هَذَا لَا يَجُوزُ، إِمَّا أَنْ تَلْتَزِمَ دِينَ اللهِ كُلِّيًّا، وَإمَّا أَنْ تَدَعَهُ كُلِّيًّا، فَهَلْ هَذَا الكَلَامُ شَرْعِيٌّ؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 11453
 2021-08-29

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ تَعَلَّمْ، وَخَاصَّةً في أُمُورِ الدِّينِ، يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. هَذَا أولًا.

ثانيًا: لَقَدْ جَعَلَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ العَظِيمِ، فَقَدْ أَعْلَمَنَا أَنَّ الصِّرَاعَ بَيْنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ قَائِمٌ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ، وَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ للإِنْسَانِ ظَاهِرَةٌ، وَمُحَاوَلَةُ إِغْوَائِهِ وَاضِحَةٌ، قَالَ تعالى في حَقِّ إِبْلِيسَ مُخْبِرًا عَنْهُ مَاذَا قَالَ لِرَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾.

ثالثًا: لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةَ الإِنْسَانِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» رواه الحاكم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ».

وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ دَعَانَا اللهُ تعالى إلى التَّوْبَةِ، فَقَالَ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وَقَالَ في وَصْفِ المُتَّقِينَ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

رابعًا: طَرِيقُ الجَنَّةِ يَحْتَاجُ إلى سُلُوكِ طَرِيقِ الاسْتِقَامَةِ، وَهُوَ طَرِيقٌ شَاقٌّ يَحْتَاجُ إلى مُجَاهَدَةٍ حَتَّى يَلْقَى العَبْدُ رَبَّهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

وروى النَّسَائِيُّ عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ».

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ».

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَالعَبْدُ وَاهٍ رَاقِعٌ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَالْبَزَّارُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ، فَسَعِيدٌ مَنْ هَلَكَ عَلَى رَقْعِهِ».

وَأَمَّا قَوْلُ هَذَا العَبْدِ: إِمَّا أَنْ تَلْتَزِمَ بِدِينِ اللهِ كُلِّيًّا، وَإمَّا أَنْ تَدَعَهُ كُلِّيًّا؛ فَكَلَامٌ غَيْرُ شَرْعِيٍّ، وَكَلَامُ إِنْسَانٍ جَاهِلٍ في دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ العَبْدَ مُلْتَزِمٌ قُدْوَةً يَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ زَلَّةٌ، فَهَذَا الزَّعْمُ بَاطِلٌ، فَالأُسْوَةُ المُطْلَقَةُ هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الاسْتِقَامَةِ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ سَبِيلًا، فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ القَدَمُ فَعَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ قُدْوَةً للآخَرِينَ بِالتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ وَالاسْتِغْفَارِ. هذا، والله تعالى أعلم.