السؤال :
امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ مِنْ رَجُلٍ، وَلَمْ تَمْضِ سَنَةٌ عَلَى زَوَاجِهِمَا بَعْدُ، اكْتَشَفَتِ الزَّوْجَةُ أَنَّ زَوْجَهَا غَيُورٌ جِدًّا، وَلَا يَأْذَنُ لَهَا بِزِيَارَةِ أَهْلِهَا إِلَّا قَلِيلًا، فَهَلْ تَطْلُبُ الطَّلَاقَ مِنْهُ، أَمْ تَصْبِرُ عَلَى غَيْرَتِهِ؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 12144
 2022-08-25

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾. وَمِنَ المُعَاشَرَةِ بِالمَعْرُوفِ حُسْنُ المُعَامَلَةِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ، كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في تَفْسِيرِهِ: أَيْ: طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا، فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾. هَذَا أَوَّلًا.

ثَانِيًا: غَيْرَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ وَمَحَارِمِهِ مِنَ الصِّفَاتِ المَحْمُودَةِ وَالمَطْلُوبَةِ شَرْعًا، وَقَدْ أَكَّدَ عَلَيْهَا الشَّرْعُ، وَحَثَّ عَلَيْهَا، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ عَنْهُ.

فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ، مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ».

وَالمَطْلُوبُ مِنَ الزَّوْجِ أَنْ تَكُونَ غَيْرَتُهُ مُعْتَدِلَةً، فَلَا يُبَالِغُ بِهَا حَتَّى يَصِلَ إلى سُوءِ الظَّنِّ بِأَهْلِهِ، أَو يُسْرِفَ في تَقَصِّي كُلِّ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا، وَتَتَبُّعِ أَقْوَالِهَا، وَيَغُوصَ في مَعَانِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ العَلَاقَةَ الزَّوْجِيَّةَ وَيَكُونُ مَدْخَلًا للشَّيْطَانِ لِإِفْسَادِ الوُدِّ وَالرَّحْمَةِ وَالمَحَبَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.

رَوَى النَّسَائِيُّ عنِ ابْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ: مَا يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنَ الْخُيَلَاءِ: مَا يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَالِاخْتِيَالُ الَّذِي يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ، عِنْدَ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَالِاخْتِيَالُ الَّذِي يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْخُيَلَاءُ فِي الْبَاطِلِ».

وَقَالَ سُلَيْمَانُ لِابْنِهِ: لَا تُكْثِرِ الْغَيْرَةَ عَلَى أَهْلِكَ، وَلَمْ تَرَ مِنْهَا سُوءًا فَتُرْمَى بِالشَّرِّ مِنْ أَجْلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ بَرِيئَةً. رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ في حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَإِنَّ غَيْرَةَ هَذَا الرَّجُلِ عَلَى زَوْجَتِهِ مِنَ اخْتِلَاطِهَا بِالرِّجَالِ الأَجَانِبِ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا، أَمَّا غَيْرَتُهُ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ فَلَيْسَتْ جَائِزَةً، لِأَنَّهَا مِنْ سُوءِ الظَّنِّ، وَقَدْ نَهَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تَحَقَّقْ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

فَالغَيْرَةُ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ سُوءِ الظَّنِّ، تُفْسِدُ المَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ التي جَعَلَهَا اللهُ تعالى في قَلْبِ الزَّوْجَيْنِ، وَتُوقِعُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ بِسَبَبِ تَدَخُّلِ الشَّيْطَانِ في مِثْلِ هَذِهِ الغَيْرَةِ.

وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لِزَوْجَتِهِ بِزِيَارَةِ أَهْلِهَا، لِأَنَّ زِيَارَتَهَا لَهُمْ أَمْرٌ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهَا، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَتَذَكَّرَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟

وَصَبْرُ المَرْأَةِ في هَذِهِ الحَالَةِ خَيْرٌ لَهَا مِنْ طَلَاقِهَا، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا؛ وَعَلَيْهَا أَنْ تُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهَا وَلِزَوْجِهَا. هذا، والله تعالى أعلم.