1ـ الغفلة عن منزلة الأم

1ـ الغفلة عن منزلة الأم

1ـ الغفلة عن منزلة الأم

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَبْلَ الحَدِيثِ عَنْ أُمَّهَاتِنَا أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ أَقُولُ: الحَدِيثُ عَنِ الأُمِّ حَدِيثٌ رَائِعٌ، يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ القُلُوبِ، لِأَنَّهَا المَخْلُوقَةُ الضَّعِيفَةُ، صَاحِبَةُ العَاطِفَةِ الحَانِيَةِ، وَصَاحِبَةُ الرِّقَّةِ اللَّامُتَنَاهِيَةِ.

الأُمُّ لَهَا مِنَ الجُهْدِ مَا قَدْ يَجْهَلُهُ بَعْضُ أَهْلُ التَّرَفِ الذينَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبصِرُونَ بِهَا، وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا، وَلَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ.

الأُمُّ هِيَ التي تَجْذِبُ وَتَمْلِكُ بِعَطْفِهَا لُبَّ الصَّبِيِّ، لِأَنَّ بَطْنَهَا كَانَ لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيَهَا لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرَهَا لَهُ وِطَاءً.

الأُمُّ هِيَ أضْعَفُ خَلْقِ اللهِ إِنْسَانًا، وَهِيَ أَصْلُ الإِنْسَانِ وَعِمَادُهُ الذي يَتَّكِئُ عَلَيْهِ، وَيَأْوِي إِلَيْهِ.

الأُمُّ هِيَ نِصْفُ البَشَرِيَّةِ، وَيَخْرُجُ مِنْ تَرَائِبِهَا النِّصْفُ الآخَرُ، هِيَ الأُمَّةُ بِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا.

مَكَانَتُهَا في الإِسْلَامِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الحَدِيثَ عَنِ الأُمِّ يَجِبُ أَنْ يَحْتَلَّ مَرْكَزًا كَبِيرًا في تَفْكِيرِنَا، وَأَنْ نَفْرَحَ لِحُسْنِ حَالِهَا، وَنَحْزَنَ إِذَا كَانَ الأَمْرُ عَلَى غَيْرِ هَذَا، لِأَنَّهَا حَمَلَتْ سِرَّ الوُجُودِ في هَذَا الكَوْنِ، وَحَفِظَتْ حَيَاةَ البَشَرِيَّةِ في هَذِهِ الدُّنْيَا، وَحَمَلَتْ أَجِنَّةَ البَشَرِيَّةِ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ.

مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ جَاءَ سَيِّدُ الخَلْقِ وَحَبِيبُ الحَقِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُوصِي البَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ بِهَذِهِ الأُمِّ فَيَقُولُ: «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ» رواه القضاعي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

بَلْ عِنْدَمَا سَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟

قَالَ: «أُمُّكَ».

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ».

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ».

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

بَلْ روى ابن ماجه عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: «ارْجِعْ فَبَرَّهَا».

ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الجَانِبِ الآخَرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا».

ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأُمُّ هِيَ التي يَفْتَخِرُ بِهَا كُلُّ عَاقِلٍ، مُتَأَسِّيًا بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ فِي هَذِهِ الْبَطْحَاءِ» رواه الحاكم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

الأُمُّ هِيَ صَاحِبَةُ الدَّوْرِ الفَعَّالِ في المُجْتَمَعِ، لِأَنَّهَا هِيَ الرَّاعِيَةُ، يَقُولُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

الغَفْلَةُ عَنْ مَنْزِلَةِ الأُمِّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأُمُّ التي أَعْلَى الإِسْلَامُ شَأْنَهَا غَفَلَ عَنْهَا بَعْضُ النَّاسِ بِسَبَبِ ضَعْفِ الوَازِعِ الدِّينِيِّ.

يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الأُمَّ خَيْرُ حَانِيَةٍ، لَطِيفَةُ المَعْشَرِ، تَحْتَمِلُ الجَفْوَةَ وَخُشُونَةَ القَوْلِ، تَعْفُو وَتَصْفَحُ قَبْلَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهَا العَفْوُ وَالصَّفْحُ، حَمَلَتْ جَنِينَهَا في بَطْنِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، يَزِيدُهَا بِنُمُوِّهِ ضَعْفًا، وَيُحَمِّلُهَا فَوْقَ مَا تُطِيقُ عَنَاءً، وَهِيَ ضَعِيفَةُ الجِسْمِ، وَاهِنَةُ القِوَى، تَحْمِلُهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، تَفْرَحُ بِحَرَكَتِهِ، وَتَقْلَقُ بِسُكُونِهِ، وَفي سَاعَةِ المَخَاضِ تَكَادُ أَنْ تَيْأَسَ مِنْ حَيَاتِهَا، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِهَا يَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾. ثُمَّ لَا يَكَادُ الجَنِينُ يَخْرُجُ، وَتَرَاهُ بِبَصَرِهَا إلى جَانِبِهَا فَإِذَا بِهَا تَنْسَى آلَامَهَا، وَكَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأُمُّ هِيَ صِمَامُ الأَمَانِ، وَمَصْدَرُ قُوَّةٍ، وَمَصْنَعُ جِيلٍ، وَقَدْ تَكُونُ هِيَ المُرَبِّيَّةُ الوَحِيدَةُ دُونَ مُشَارَكَةِ الآبَاءِ.

وَإِنَّهُ لَمِنَ العَجِيبِ أَنْ نَرَى هَذَا مُجَسَّدًا في حَيَاةِ أَرْبَعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، في حَيَاةِ سَيِّدِنَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفي حَيَاةِ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفي حَيَاةِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفي حَيَاةِ سَيِّدِ السَّادَاتِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَلَعَلَّنَا أَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْ دَوْرِ هَؤُلَاءِ الأُمَّهَاتِ في حَيَاةِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا رِضَاءَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ عَلَيْنَا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 7/ صفر /1442هـ، الموافق: 24/ أيلول / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع أمهاتنا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

12-01-2024 153 مشاهدة
37ـ الطاهرة سيدة الشعب

وَدَعُونَا الآنَ نَتَتَبَّعُ جَانِبًا مِنَ السِّيرَةِ العَطِرَةِ لِهَذِهِ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ، وَصَبْرِهَا وَاحْتِسَابِهَا وَحُبِّهَا وَحَدْبِهَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ في ... المزيد

 12-01-2024
 
 153
30-12-2023 171 مشاهدة
36ـ صلاتها مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَقْرَبَ مَا تَكُونُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تُتَابِعُهُ، وَتَقْتَدِي بِهِ، وَتَسْمَعُ مِنْهُ وَتَحْفَظُ لَهُ، وَتَسْعَى ... المزيد

 30-12-2023
 
 171
24-11-2023 245 مشاهدة
35ـ البشرى

حُبِّبَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخَلْوَةُ، فَكَانَ يَذْهَبُ إلى غَارِ حِرَاءٍ يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، ثُمَّ يَعُودُ إلى خَدِيجَةَ لِيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا. ... المزيد

 24-11-2023
 
 245
11-09-2023 355 مشاهدة
34ـ بدء الوحي

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مُشْرِقَةٌ مِنْ صُوَرِ حَيَاةِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ، فَمَا إِنْ حَدَّثَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ حَتَّى ... المزيد

 11-09-2023
 
 355
10-08-2023 251 مشاهدة
33ـ أيام حراء

مُنْذُ ضَمَّهَا البَيْتُ السَّعِيدُ قَامَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِوَاجِبِهَا كَامِلًا نَحْوَ زَوْجِهَا الحَبِيبِ، فَمَلَأَتْ أَيَّامَهُ سَعَادَةً وَهَنَاءً، تَتَحَسَّسُ مَرَاضِيَهُ فَتُسَارِعُ إِلَيْهَا، وَتَجْعَلُ نَفْسَهَا وَمَالَهَا ... المزيد

 10-08-2023
 
 251
09-03-2023 253 مشاهدة
32ـ حياة السيدة خديجة من الزواج إلى البعثة

السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا جُبِلَتْ عَلَى فِطْرَةٍ كَرِيمَةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ عَالِيَةٍ وَحَنَانٍ فَيَّاضٍ، مَا إِنْ تَزَوَّجَتْ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ... المزيد

 09-03-2023
 
 253

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414099345
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :