59ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ (1)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَسْتَفِيدُ مِنْ سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَنَّ صِفَةَ الرُّجُولَةِ نَادِرَةٌ، وَنَادِرٌ مَنْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ صِفَةُ الرِّجَالِ.
كَلِمَةُ رَجُلٍ تَدُلُّ بِأَصْلِ وَضْعِهَا في اللُّغَةِ عَلَى طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ المَعَانِي، غَيْرِ الذُّكُورَةِ المُقابِلَةِ للأُنُوثَةِ في بَنِي الإِنْسَانِ.
تَقُولُ العَرَبُ في المُفَاضَلَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَتَفَوُّقِ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ: أَرْجَلُ الرَّجُلَيْنِ.
وَكَذَلِكَ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّصَدِّي للأَحْدَاثِ، فَيُقَالُ: رَجُلُ السَّاعَةِ، أَو رَجُلُ زَمَانِهِ، أَو رَجُلٌ مِنْ رَجَالَاتِ قَوْمِهِ.
وَتُسْتَعْمَلُ كَلِمَةُ رَجُلٍ في القُرْآن الكَرِيمِ وَصْفًا للمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ، قَالَ تعالى في سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾.
وَصْفُ الرِّجَالِ في القُرْآنِ العَظِيمِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَفْظُ الرِّجَالِ في القُرْآنِ العَظِيمِ كَمَا قُلْتُ، هُوَ وَصْفٌ يُوصَفُ بِهِ المُصْطَفَوْنَ الأَخْيَارُ مِنَ الخَلْقِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾.
وَجَاءَتْ في وَصْفِ مَنْ يُنَاصِرُ الحَقَّ وَيَقُومُ عَلَيْهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾. قَالَ تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ﴾؟
وَتُطْلَقُ عَلَى مَنْ صَدَقَ مَا عَاهَدَ اللهَ تعالى عَلَيْهِ، قَالَ تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
وَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَطَلَّعُ إلى الرُّجُولَةِ التي تُنَاصِرُهُ، وَيَسْأَلُهَا رَبَّهُ، فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ» قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
هَكَذَا يَكُونُ الرِّجَالُ، يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ. رواه الإمام البخاري.
لَمْ تَكُنْ رُجُولَةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قُوَّةِ بَدَنِهِ فَقَطْ، وَلَا في فُرُوسِيَّتِهِ فَقَطْ، ففي قُرَيْشٍ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَكِنَّ رُجُولَتَهُ كَانَتْ في إِيمَانِهِ القَوِيِّ، وَنَفْسِهِ الكَبِيرَةِ التي تَبْعَثُ عَلَى التَّقدِيرِ وَالإِكْبَارِ، هَاجَرَ الصَّحَابَةُ خِفْيَةً، أَمَّا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ هَاجَرَ نَهَارًا، تَقَلَّدَ سَيْفَهُ، وَمَضَى إلى الكَعْبَةِ، فَطَافَ وَصَلَّى في المَقَامِ، وَأَعْلَنَ هِجْرَتَهُ عَلَى المَلَأِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ تَثْكَلْهُ أُمُّهُ، وَيُؤْتَمَ وَلَدُهُ، وَتَرْمُلَ زَوْجَتُهُ؛ فَلْيَلْقَنِي وَرَاءَ هَذَا الوَادِي؛ فَمَا تَبِعَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. كذا في كنز العمال.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَوْلُهُ تعالى في سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾. ثَنَاءٌ، وَتَحْفِيزٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ يَعْنِي: لَو لَمْ تَكُنْ رَجُلًا يُعْتَمَدُ عَلَيْكَ لَمَا وَقَعَ الاخْتِيَارُ عَلَيْكَ، وَلَقَدِ اخْتَارَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَاصْطَفَاهُمْ اصْطِفَاءً لَا نَظِيرَ لَهُ، فَهُمْ رِجَالُ صِدْقٍ، وَرِجَالُ حَقٍّ، صَبَرُوا وَصَابَرُوا، وَلَمْ يُغَيِّرُوا وَلَمْ يُبَدِّلُوا، وَذَلِكَ بِسِرِّ اتِّصَالِهِمْ بِاللهِ تعالى عَنْ طَرِيقِ الوَحْيِ.
وَهُنَاكَ إِشَارَةٌ ثَانِيَةٌ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، تُوَضِّحُ لَنَا أَنَّ المَرْأَةَ لَا تَكُونُ رَسُولًا مِنَ اللهِ تعالى، لِأَنَّ مُهِمَّةَ الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنْ يَلْتَحِمَ بِالعَالَمِ الْتِحَامَ بَلَاغٍ، وَالمَرْأَةُ مَطْلُوبٌ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ سَكَنًا لِزَوْجِهَا.
كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ يُفْتَرَضُ فِيهِ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ تَكْلِيفٌ تَعَبُّدِيٌّ في أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ، وَالمَرْأَةُ يَسْقُطُ عَنْهَا التَّكْلِيفُ التَّعَبُّدِيُّ أَثْنَاءَ حَيْضِهَا وَنِفَاسِهَا، وَمُهِمَّةُ الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيَ الأَدَاءِ التَّكْلِيفِيِّ في أَيِّ وَقْتٍ.
وَمِنْ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ جَعَلَ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ البَشَرِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ مِنَ المَلَائِكَةِ، وَلَا مِنَ الجِنِّ، لِأَنَّ الجِنْسَ إلى جِنْسِهِ أَمْيَلُ، وَأَكْثَرُ تَفَهُّمًا وَإِدْرَاكًا لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
وَفي الخِتَامِ: الرُّجُولَةُ مَطْلَبٌ يَسْعَى للتَّجَمُّلِ بِخَصَائِصِهَا أَصْحَابُ الهِمَمِ، وَيَسْمُو بِمَعَانِيهَا الرِّجَالُ الجَادُّونَ، وَهِيَ صِفَةٌ أَسَاسيَّةٌ فِيهِمْ، فَالنَّاسُ إِذَا فَقَدُوا أَخْلَاقَ الرُّجُولَةِ صَارُوا أَشْبَاهَ رِجَالٍ، غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، الرُّجُولَةُ تُرَسَّخُ بِعَقِيدَةٍ قَوِيَّةٍ، وَتُهَذَّبُ بِتَرْبِيَةٍ صَالِحَةٍ صَحِيحَةٍ، وَتُنَمَّى بِقُدْوَةٍ حَسَنَةٍ.
تاريخ الكلمة
** ** **
الاثنين: 2/ محرم /1443هـ، الموافق: 9/ آب / 2021م
ارسل إلى صديق |
الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد
مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد
ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد
حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد
وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد
يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد