559ـ خطبة الجمعة: مواسم كريمة

559ـ خطبة الجمعة: مواسم كريمة

 

559ـ خطبة الجمعة: مواسم كريمة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد أَظَلَّتْنَا أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ مُبَارَكَةٌ، ومَوَاسِمٌ للخَيْرِ كَرِيمَةٌ، أَيَّامٌ تُضَاعَفُ فِيهَا الحَسَنَاتُ، وتُقَالُ فِيهَا العَثَرَاتُ، وتُسْتَجَابُ فِيهَا الدَّعَوَاتُ، فَلِلَّهِ عزَّ وجلَّ خَوَاصُّ في الأَزْمِنَةِ والأَمْكِنَةِ والأَشْخَاصِ.

فَأَحَبُّ الأَزْمِنَةِ إلى اللهِ تعالى الأَشْهُرُ الحُرُمُ، التي قَالَ فِيهَا مَوْلانَا عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرَاً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.

وَقَدِ اخْتَارَ اللهُ عزَّ وجلَّ العَشْرَ الأُوَلَ من ذِي الحِجَّةِ لِتَكُونَ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَأَقْسَمَ بِهَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾. وَهِيَ عَـشْرُ ذِي الحِجَّةِ، واللهُ تَبَارَكَ وتعالى لَا يُقْسِمُ إِلَّا بِعَظِيمٍ، وَسَمَّاهَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ الأَيَّامَ المَعْلُومَاتِ، فَقَالَ تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾.

وَقَد شَهِدَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِأَنَّهَا أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، روى البزار وأبو يعلى عَن جَاِبٍر رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا العَشْرُ ـ يَعْنِي عَشْرَ ذِي الحِجَّةِ ـ».

قِيلَ: وَلَا مِثْلَهُنَّ في سَبِيلِ اللهِ؟

قَالَ: «وَلَا مِثْلَهُنَّ في سَبِيلِ اللهِ، إلا رَجُلٌ عَفَّرَ وَجْهَهُ بالتُّرَابِ».

اغْتِنَامُ هذهِ الأَيَّامِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد حَثَّ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الأُمَّةَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا وَاغْتِنَامِهَا، وَالإِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ في لَيَالِيهَا وَأَيَّامِهَا، روى الإمام أحمد والترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ».

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».

وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِن الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِن التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ».

يَا عِبَادَ اللهِ: فَهَذِهِ الأَيَّامُ زَادَهَا اللهُ تَبَارَكَ وتعالى شَرَفَاً وقَدْرَاً، حَيْثُ جَمَعَ فِيهَا الأَعْمَالَ المُبَارَكَةَ، فَفِيهَا يُؤَدِّي المُسْلِمُونَ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ، ومَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِرَكْبِ الحُجَّاجِ والمُعْتَمِرِينَ فَعَزَاؤُهُ صِيَامُ هذهِ الأَيَّامِ، وخَاصَّةً صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنَّ جَزَاءَهُ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: وَسُئِلَ ـ أَيْ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ـ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟

فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ خَيْرَ مَا نَسْتَفْتِحُ بِهِ هذهِ الأَيَّامَ المُبَارَكَةَ التَّوْبَةُ إلى اللهِ تعالى مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ والمَظَالِمِ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ السَّعَادَةِ، وعَلَيْهَا تُشَيَّدُ الأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ، وَرُبَّ عَمَلٍ عَظِيمٍ غَمَصَتْهُ ذُنُوبٌ سَالِفَةٌ لَمْ يَتَطَهَّرْ صَاحِبُهَا مِنْهَا، فَلَمْ يُفْلِحْ في دَرْكِ بَرَكَتِهَا ونَيْلِ ثَوَابِهَا، وكَانَتْ عَلَيْهِ وَبَالَاً وخُسْرَانَاً، ولَمْ يُفِدْ مِنْهَا غَيْرَ النَّصَبَ والتَّعَبِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد حَثَّنَا اللهُ تعالى عَلَى التَّوْبَةِ في كِتَابِهِ العَظِيمِ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: فَلْيَفْرَحْ بِتَوْبَتِنَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ في مُسْتَهَلِّ هَذِهِ الأَيَّامِ الطَّيِّبَةِ المُبَارَكَةِ، فَقَد روى الإمام البخاري عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «للهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلَاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ».

وَلَقَد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَسْتَكْثِرُ مِنَ التَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ في كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، روى الإمام مسلم عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ».

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 26/ ذو القعدة /1438هـ، الموافق: 18/ آب / 2017م

 2017-08-18
 2045
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 284 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 284
23-05-2024 601 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 601
17-05-2024 905 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 905
10-05-2024 706 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 706
02-05-2024 871 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 871
26-04-2024 814 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 814

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3167
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415318709
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :