598ـ خطبة الجمعة: شهر رمضان شهر القرآن

598ـ خطبة الجمعة: شهر رمضان شهر القرآن

 

598ـ خطبة الجمعة: شهر رمضان شهر القرآن

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ عَلَى الأَبْوَابِ، وَنُفُوسُ الأَتْقِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ تَنْتَظِرُهُ، وَالفَرْحَةُ عَمَّتْ قُلُوبَهُمْ بِقُدُومِ هَذَا الغَائِبِ، هَذَا الزَّائِرِ الكَرِيمِ، لِأَنَّهُ مَوْسِمُ خَيْرٍ، وَمَوْسِمُ تَعَرُّضٍ لِنَفَحَاتِ اللهِ تعالى.

إِنَّ تَرَقُّبَ هَذَا الشَّهْرِ المُبَارَكِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ، وَإِنَّ الفَرَحَ بِقُدُومِهِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ، وَإِنَّ حُسْنَ الاسْتِعْدَادِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ، لِأَنَّهُ شَهْرُ التَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَشَهْرُ امْتِثَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.

كَيْفَ لَا يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِهَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَالأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ فِيهِ مُضَاعَفَةٌ «مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً، كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ». رواه ابن خزيمة عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

شَهْرُ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ القُرآنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا الشَّهْرُ العَظِيمُ المُبَارَكُ أَظَلَّ هَذِهِ الأُمَّةَ، وَهُوَ خَيْرُ الشُّهُورِ، لِأَنَّ القُرْآنَ العَظِيمَ نَزَلَ فِيهِ، نَزَلَ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾. وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ في شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.

بِهَذَا القُرْآنِ العَظِيمِ رَفَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَأْسَ الأُمَّةِ التي كَانَتْ مُهَانَةً، حَيْثُ كَانَتْ أُمَّةً تَعِيشُ في صَحْرَاءَ شَاسِعَةٍ في الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، وَكَانَتْ تَرْعَى الإِبِلَ، وَتُصَارِعُ عَلَى لُقْمَةِ عَيْشِهَا، بِبَرَكَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ صَارَتِ الأُمَّةُ المُشَتَّتَةُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ، حَكَمَتْ بِكِتَابِ اللهِ تعالى، وَقَدَّمَت للبَشَرِيَّةِ نَمَاذِجَ مِنَ الـبَشَرِ تُنَافِسُ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ.

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُبَشُّرُ الأُمَّةَ بِقُدُومِ رَمَضَانَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُـبَشُّرُ الأُمَّةَ بِقُدُومِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعَاً». رواه ابن خزيمة عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لَقَدِ اغْتَنَمَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ هَذَا الشَّهْرَ المُبَارَكَ بِالطَّاعَاتِ، وَخَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ لِتِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَمِمَّا يُذْكَرُ بِأَنَّ الإِمَامَ مَالِكَاً إِمَامَ دَارِ الهِجْرَةِ كَانَ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانَ أَغْلَقَ كُتُبَهُ، وَامْتَنَعَ عَنِ الفُتْيَا، وَأَقْبَلَ عَلَى القُرْآنِ.

وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كَانَ يَخْتِمُ القُرْآنَ في رَمَضَانَ سِتِّينَ خَتْمَةً.

وَذَكَرَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ القُرْآنَ في رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ مَرَّةً.

وَكَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يَخْتِمُهُ في أُسْبُوعٍ، فَإِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ خَتَمَهُ في الأُسْبُوعِ مَرَّتَيْنِ.

وَكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ القُرْآنَ مَعَ جِبْرِيلَ الذي نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِ في رَمَضَانَ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ رَمَضَانَ مِنْ حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ عَلَيْهِ وَدَرَسَهُ مَرَّتَيْنِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: كِتَابُ اللهِ تعالى هُوَ عِزُّنَا، وَهُوَ ذِكْرُنَا، قَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابَاً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ هُوَ عِزُّنَا وَمَجْدُنَا إِذَا أَحْلَلْنَا حَلَالَهُ، وَحَرَّمْنَا حَرَامَهُ، وَتَخَلَّقْنَا بِآدَابِهِ.

كِتَابُ اللهِ تعالى هُوَ رِسَالَتُهُ إلى خَلْقِهِ، حَدَّثَهُمْ فِيهِ، وَعَلَّمَهُمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَعَرَّفَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَرَّفَهُمْ عَلَى ذَاتِهِ القُدْسِيَّةِ، وَعَرَّفَهُمْ قِصَّةَ رِحْلَتِهِمْ في نَجَاحِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَلَّفَهُم بِوَظَائِفِهِمُ التي خُلِقُوا مِنْ أَجْلِهَا، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ التَّنَكُّبِ عَنْ مَنْهَجِهِ الذي وَضَعَهُ لَهُمْ.

تَصَوَّرُوا رِسَالَةً وَرَدَتْ مِنْ مَنْ؟ صَدَرَتْ مِنْ مَلِكِ المُلُوكِ، وَمِنْ عَلَّامِ الغُيُوبِ، مِنْ قَهَّارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ؛ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.

فَهَلْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ يُعْرِضَ النَّاسُ عَنْ رِسَالَةِ رَبِّهِمْ؟

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُعِيدَ العِزَّ لِهَذِهِ الأُمَّةِ في شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ المُقْبِلِ عَلَيْنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 25/ شعبان /1439هـ، الموافق: 11/ أيار / 2018م

 2018-05-11
 1618
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 324 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 324
23-05-2024 628 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 628
17-05-2024 925 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 925
10-05-2024 719 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 719
02-05-2024 876 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 876
26-04-2024 823 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 823

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3167
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415341601
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :