605ـ خطبة الجمعة: السير إلى الله لن ينقضي

605ـ خطبة الجمعة: السير إلى الله لن ينقضي

 

605ـ خطبة الجمعة: السير إلى الله لن ينقضي

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَئِنِ رَحَلَ رَمَضَانُ، فَإِنَّ العَمَلَ الصَّالِحَ لَنْ يَرْحَلَ؛ إِنْ وَدَّعْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَنْ نُوَدِّعَ العَمَلَ الصَّالِحَ، وَلَئِنِ انْقَضَى شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، فَإِنَّ السَّيْرَ إلى اللهِ تعالى، وَالتَّقَرُّبَ إلى حَضْرَتِهِ لَنْ يَنْقَضِيَ.

فَالعَمَلُ الصَّالِحُ لَنْ يَتَوَقَّفَ مَا دَامَتِ الأَرْوَاحُ في الأَجْسَادِ، العَمَلُ الصَّالِحُ لَنْ يَتَوَقَّفَ إِلَّا بِالمَوْتِ، بَلْ أَقُولُ: وَلَنْ يَتَوَقَّفَ بِالمَوْتِ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَلَنْ نَقْطَعَ العَمَلَ الصَّالِحَ بِإِذْنِ اللهِ تعالى حَتَّى المَوْتِ، وَقَبْلَ مَوْتِنَا سَنَجْعَلُ صَدَقَةً جَارِيَةً لِمَا بَعْدَ مَوْتِنَا، وَسَنُبْقِي عِلْمَاً نَافِعَاً لِمَا بَعْدَ مَوْتِنَا، وَسَنُرَبِّي أَبْنَاءً نَنْتَفِعُ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِنَا.

وَرَحِمَ اللهُ الحَسَنَ البَصْرِيَّ عِنْدَمَا قَالَ: أَيْ قَوْمِ، المُدَاوَمَةَ المُدَاوَمَةَ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ المُؤْمِنِ أَجَلَاً دُونَ المَوْتِ. اهـ.

فَلْنَعْمَلَ قَبْلَ المَوْتِ، وَلْنَعْمَلْ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَهَذَا شَأْنُ العُقَلَاءِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ» رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الوَقْتُ هُوَ الحَيَاةُ، وَعُمُرُ الإِنْسَانِ قَصِيرٌ، وَهَذِهِ الدَّارُ دَارُ امْتِحَانٍ، فَالعَاقِلُ مَنْ يُبَادِرُ فِيهَا للطَّاعَاتِ مَا دَامَتِ الفُرْصَةُ مُوَاتِيَةً وَسَانِحَةً، الدُّنْيَا دَارُ انْتِقَالٍ، وَبَقَاءُ الحَالِ مِنَ المُحَالِ، وَلِذَلِكَ سُرْعَانَ مَا يُنْقَلُ عَنْهَا الإِنْسَانُ، فَإِذَا مَا انْتَقَلَ مِنْهَا يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَيْهَا وَلَو لَحْظَةً، كَمَا قَالَ تعالى عَنْ حَالِ هَذَا العَبْدِ: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسَاً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ تعالى بِالمُبَادَرَةِ إلى الطَّاعَاتِ وَالمُسَارَعَةِ فِيهَا، فَقَالَ تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾.

الدُّنْيَا مَجَالٌ للمُسَابَقَةِ، كُلُّ يَوْمٍ تُطْوَى صَحِيفَةُ عَمَلِكَ عِنْدَ نَوْمِكَ، وَتُنْشَرُ عِنْدَ اسْتِيْقَاظِكَ، فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ تُطْوَى صَحِيفَةُ عَمَلِكَ بِمَوْتِكَ، ثُمَّ لَا تُنْشَرَ إِلَّا عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ.

فَاشْتَرُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ، وَاسْمَعُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ يُنَادِيَكُمُ المُنَادِي إلى دَارِ الآخِرَةِ؛ عُمُرُكُمْ مَحْدُودٌ في عِلْمِ اللهِ تعالى، مَجْهُولٌ لَدَيْكُمْ، فَاسْتَغِلُّوهُ أَبْلَغَ اسْتِغْلَالٍ، جَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْوَاءَكُمْ وَشَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ، وَتَغَلَّبُوا عَلَيْهِمْ مِنْ خِلَالِ مُتَابَعَتِكُمْ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ، وَإِلَّا فَالحَسْرَةُ سَتَأْكُلُ القُلُوبَ ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

وَيَقُولُ تعالى عَنْ هَؤُلَاءِ الذينَ أَكَلَتِ الحَسْرَةُ قُلُوبَهُمْ: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: احْذَرُوا مِنْ تَوْدِيعِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ تَوْدِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَا أَقْبَحَ المَعْصِيَةَ بَعْدَ الطَّاعَةِ، انْظُرُوا أَعْمَالَكُمْ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ هَلْ هِيَ في كَفَّةِ الحَسَنَاتِ، أَمْ في كَفَّةِ السَّيِّئَاتِ؟ فَالمِيزَانُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا كَفَّتَانِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا انْقَضَى شَهْرُ رَمَضَانُ فَإِنَّ السَّيْرَ إلى اللهِ تعالى لَنْ يَنْقَضِيَ، وَلْنَسْتَعِدَّ لِلَيْلَتَيْنِ مَا سَمِعَ الخَلَائِقُ بِمِثْلِهِمَا، لَيْلَةٌ يَبِيتُ فِيهَا العَبْدُ مَعَ المَوْتَى، وَلَيْلَةٌ صَبِيحَتُهَا يَوْمُ القِيَامَةِ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ﴾.

اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 8/ شوال /1439هـ، الموافق: 22/ حزيران / 2018م

 2018-06-22
 3044
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 454 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 454
23-05-2024 718 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 718
17-05-2024 1000 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 1000
10-05-2024 776 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 776
02-05-2024 927 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 927
26-04-2024 882 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 882

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415433712
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :