مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا عِبادَ الله، لقد عَظُمَت مِنَّةُ الله تعالى عليكم، إذ شَرَحَ صُدورَكُم للإسلامِ، عَظُمَت مِنَّةُ الله تعالى عليكم، أنْ هَداكُم للإيمانِ، عَظُمَت مِنَّةُ الله تعالى عليكم، أنْ كَرَّهَ إليكُمُ المعاصي والمُنكَراتِ.
عَظُمَت مِنَّةُ الله تعالى عليكم، أنْ جَعَلَكُم مِمَّنِ استَجابَ له تعالى ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حيثُ استَجَبتُم لِقَولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾. ولِقَولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾. فَصُمتُم هذا الشَّهرَ حَقَّ الصِّيامِ، وقُمتُم حَقَّ القِيامِ إن شاءَ اللهُ تعالى.
الصَّومُ شُكرٌ للنِّعَمِ السَّابِقَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أسبَغَ اللهُ تعالى علينا نِعَماً لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وكَلَّفَنا بعدَ ذلكَ بالعِبادَةِ، والتي من جُملَتِها الصِّيامُ والقِيامُ، فالعابِدُ يَعبُدُ اللهَ تعالى شُكراً على نِعَمِهِ السَّابِقَةِ، وشُكراً لله تعالى على نِعمَةِ التَّكليفِ، لأنَّ اللهَ تعالى الذي كَرَّمَ العَبدَ بالنِّعَمِ زادَهُ تَشريفاً وتَكريماً بِنِعمَةِ التَّكليفِ، حيثُ جَعَلَ فيهِ سِرَّ السَّعادَةِ في الدُّنيا قَبلَ الآخِرَةِ، ففي الدُّنيا لا يَضِلُّ المُكَلَّفُ ولا يَشقى، ولا يَخافُ ولا يَحزَنُ، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾. وقال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون﴾.
من ثِمارِ الصَّومِ:
أيُّها الإخوة الكرام: من تَمامِ فَضْلِ الله تعالى ونِعمَتِهِ علينا، أنْ جَعَلَ للصَّائِمِ أجراً لا يَعلَمُهُ إلا اللهُ تعالى، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ، فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».
هَنيئاً لكَ أيُّها الصَّائِمُ، فقد وَقَعَ أجرُكَ على الله تعالى، وهَنيئاً لكَ تلكَ الفَرحَتانِ، عِندَ فِطرِكَ وعِندَ لِقاءِ ربِّكَ.
هَنيئاً لكَ أيُّها الصَّائِمُ، لقد ذَهَبَ تَعَبُ العِبادَةِ وبَقِيَت لَذَّتُها، وأنتَ على وَعدٍ معَ أجرِها، وأمَّا الخاسِرُ الذي خَسِرَ الصِّيامَ والقِيامَ، فقد ذَهَبَت لَذَّةُ فِطرِهِ ـ إن كانَ يَشعُرُ بِلَذَّةِ المعصِيَةِ ـ ولكن بَقِيَت مَرارَتُها.
هَنيئاً لكَ أيُّها الصَّائِمُ، وأنتَ مُتَوَجِّهٌ إلى صلاةِ العيدِ لِتَسمَعَ بِشَارَةَ الملائِكَةِ الكِرامِ: اِرجِعوا راشِدينَ إلى رِحالِكُم.
روى الطبراني في الكبير عَنْ أبي سَعِيدِ بن أَوْسٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الطُّرُقِ، فَنَادَوْا: اغْدُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يَمُنُّ بِالْخَيْرِ، ثُمَّ يُثِيبُ عَلَيْهِ الْجَزِيلَ، لَقَدْ أُمِرْتُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَقُمْتُمْ، وَأُمِرْتُمْ بِصِيَامِ النَّهَارِ فَصُمْتُمْ، وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ، فَاقْبِضُوا جَوَائِزَكُمْ، فَإِذَا صَلَّوا، نَادَى مُنَادٍ: أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا رَاشِدِينَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَهُوَ يَوْمُ الْجَائِزَةِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ الْجَائِزَةِ».
كُن حَريصاً على بَراءَةِ ذِمَّتِكَ أمامَ العِبادِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أكرَمَكُمُ اللهُ تعالى بالمَغفرَةِ إن شاءَ اللهُ تعالى، حيثُ خَرَجتُم بِبَرَكَةِ الصِّيامِ من ذُنوبِكُم كَيَومَ وَلَدَتكُم أمَّهاتُكُم إن شاءَ اللهُ تعالى، فحافِظوا على هذهِ النِّعمَةِ، واحذَروا من ضَياعِها، وذلكَ بِصَرفِها إلى غَيرِكُم، وذلكَ من خِلالِ ظُلمِ الآخَرينَ.
يا من عَبَدَ اللهَ تعالى في شَهرِ رَمَضانَ فَصامَ وقامَ وتلا القُرآنَ وأمَرَ بالمعروفِ ونهى عن المنكَرِ، ماذا يَنفَعُكَ هذا إذا كُنتَ مِمَّن أساءَ للعِبادِ؟ أمَا تَذكُرُ أيُّها العابِدُ حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟»
قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.
فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»؟
أسألُ اللهَ تعالى أن يُلهِمَ كُلَّ قاتِلٍ وسافِكٍ لِدِماءِ الأبرِياءِ، وكُلَّ مُرَوِّعٍ للنَّاسِ، وكُلَّ سالِبٍ للأموالِ، وكُلَّ مُختَطِفٍ للنَّاسِ، التَّوبَةَ الصَّادِقَةَ النَّصوحَ قَبلَ مَوتِهِ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
يا عِبادَ الله، يا من أطَعتُم ربَّكُم، وصُمتُم وقُمتُم، حافِظوا على هذهِ النِّعمَةِ، واعلَموا بأنَّ حُقوقَ الله تعالى مَبنِيَّةٌ على المسامَحَةِ، أمَّا حُقوقُ العِبادِ فَمَبنِيَّةٌ على المشاحَّةِ.
يا عبادَ الله، صِلوا الأرحامَ، وخاصَّةً الرَّحِمَ الذي قُطِعَت من أجلِ عرَضٍ من أعراضِ الدُّنيا، لعلَّ بهذهِ الصِّلَةِ للأرحامِ أن يَصِلَ المجتَمَعُ إلى دَرَجَةِ البُنيانِ المَرصوصِ.
يا من استَجَبتُم لِقَولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾. استَجِيبوا لِجَميعِ أوامِرِ الله تعالى، وخاصَّةً التي تَتَعَلَّقُ بِحُقوقِ العِبادِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقنا لذلكَ آمين.
أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الخميس: 1/شوال/1434هـ، الموافق: 8/آب / 2013م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد