504ـ خطبة الجمعة: الدنيا قصيرة

504ـ خطبة الجمعة: الدنيا قصيرة

.

504ـ خطبة الجمعة: الدنيا قصيرة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا على يَقِينٍ إِنْ تَعَلَّقْنَا بِغَيْرِ اللهِ تعالى انْقَطَعْنَا، وَإِنْ سَأَلْنَا غَيْرَ اللهِ تعالى حُرِمْنَا، وَإِنِ اعْتَصَمْنَا بِغَيْرِ اللهِ تعالى خُذِلْنَا، وَإِنْ أَرَدْنَا مَعُونَةً بِغَيْرِ مَعُونَةِ اللهِ تعالى فَلَنْ نَجِدَ إلا نَكَدَاً وَهَمَّاً وَكَمَدَاً.

يَا عِبَادَ اللهِ: تَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرَاً﴾. وَلْنَجْعَلْ جَمِيعَ حَوَائِجِنَا في بَابِ اللهِ تعالى سَائِلِينَ إِيَّاهُ، مُسْتَعِينِينَ بِهِ، مُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ.

سَلُوا الذي خَلَقَكُمْ، وَالذي بِيَدِهِ نَوَاصِي الخَلْقِ جَمِيعَاً، سَلُوا الذي سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.

الدُّنْيَا قَصِيرَةٌ، فَلَا تَتَكَدَّرُوا:

يَا عِبَادَ اللهِ: الدُّنْيَا وَإِنْ طَابَتْ وَصَفَتْ فَهِيَ قَصِيرَةٌ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ مَلِيئَةً بِالمَصَائِبِ وَالابْتِلَاءَاتِ؟ الدُّنْيَا قَصِيرَةٌ وَإِنْ حَلَتْ، فَلَا تَتَكَدَّرُوا إِذَا وَقَعَتِ المَصَائِبُ وَالمِحَنُ، وَقَارِنُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ بِمَا حَلَّ بِكُمْ مِنَ المَصَائِبِ، النِّعَمُ التي تُحِيطُنَا لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَخَاصَّةً نِعْمَةُ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ، فَلَا تُضَيِّعُوا تِلْكَ النِّعَمَ بِاليَأْسِ إِذَا حَلَّتْ بِكُمْ مُصِيبَةٌ مِنَ المَصَائِبِ، وَكُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّهُ مَا سَلِمَ أَحَدٌ مِنَ المَصَائِبِ وَالابْتِلَاءَاتِ، حَتَّى الأَنْبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ.

كُنْ شَاكِرَاً صَابِرَاً مَعَ الثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ الأَنبِيَاءُ وَالمُرْسَلُونَ وَالصَّالِحُونَ مُتَفَائِلِينَ، مَا عَرَفُوا اليَأْسَ وَلَا القُنُوطَ حَتَّى آخِرِ اللَّحَظَاتِ، لِذَلِكَ لَا يَسَعُ أَيَّ مُسْلِمٍ في أَيَّامِ الرَّخَاءِ إلا الشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ، وَلَا يَسَعُهُ في أَيَّامِ البَلَاءِ وَالمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ إلا الصَّبْرُ وَالدُّعَاءُ، بَلْ لَا يَسَعُهُ إلا الصَّبْرُ وَالدُّعَاءُ مَعَ الثَّنَاءِ للهِ تعالى.

فَهَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، بَعْدَ أَنْ وَقَعَ في الحُفْرَةِ، وَشُجَّ وَجْهُهُ الشَّرِيفُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَجُرِحَتْ شَفَتُهُ السُّفْلَى، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ سَبْعُونَ رَجُلَاً مِنْ خِيرَةِ الصَّحْبِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ عَمُّهُ سَيِّدُنَا حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَانْكَشَفَتِ المَعْرَكَةُ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ الكِرَامِ: «اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي».

فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفَاً، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللَّهُمَّ عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنَا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ، وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا، وَلَا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ إِلَهَ الْحَقِّ» رواه الحاكم عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

اللهُ تعالى لَا يُقَدِّرُ عَبَثَاً:

يَا عِبَادَ اللهِ: عِنْدَمَا يَكُونُ الإِنْسَانُ شَاكِرَاً وَمُثْنِيَاً، وَصَابِرَاً وَدَاعِيَاً، يَكُونُ قَوِيَّاً مَهْمَا تَتَابَعَتِ الفِتَنُ، وَمَهْمَا تَوَاتَرَتِ المَصَائِبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْـعُسْرِ يُـسْرَاً * إِنَّ مَعَ الْـعُسْرِ يُسْرَاً﴾. لِأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرَاً﴾.

المُؤْمِنُ دَائِمَاً وَأَبَدَاً قَوِيٌّ نَشِيطٌ حَتَّى في أَيَّامِ الفِتَنِ، لِأَنَّهُ على يَقِينٍ بِأَنَّ الأُمُورَ إلى اللهِ تعالى، وَأَنَّ المَقَادِيرَ بِيَدِ اللهِ تعالى، وَهُوَ على يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ تعالى لَا يُقَدِّرُ عَبَثَاً، وَلَا يُقَدِّرُ ظُلْمَاً، وَلَا يُقَدِّرُ إلا بِتَمَامِ رَحْمَتِهِ التي سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: التَّفَاؤُلُ سُنَّةُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّ التَّفَاؤُلَ يَشْحَذُ الهِمَمَ للعَمَلِ، وَيُغَذِّي القُلُوبَ بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالأَمَلِ؛ كَيْفَ لَا يَكُونُ المُسْلِمُ مُتَفَائِلَاً وَهُوَ على يَقِينٍ بِأَنَّ قُلُوبَ الذينَ يَخَافُهُمْ هِيَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَمَا دَامَ قَلْبُ مَنْ تَخَافُهُ بِيَدِ مَنْ تُحِبُّهُ فَلَا تَخَفْ.

يَا عِبَادَ اللهِ: تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى لِأُمِّ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْـمُرْسَلِينَ﴾. أَلْقِيهِ في اليَمِّ، لِيَأْخُذَهُ اليَمُّ إلى عَدُوٍّ للهِ تعالى، وَعَدُوٍّ لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا تَخَافِي، لِأَنَّ قَلْبَ الذي تَخَافِينَ مِنْهُ هُوَ في يَدِ اللهِ تعالى الذي تُحِبِّينَهُ.

مَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟ النَّتِيجَةُ: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾.

هَلِ اسْتَطَاعَ فِرْعَوْنُ قَتْلَ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ طِفْلٌ رَضِيعٌ؟

أَبَدَاً، لَا، حَتَّى نَتَعَلَّمَ أَنْ لَا نَخَافَ أَحَدَاً مَا دَامَ قَلْبُهُ بِيَدِ مَنْ نُحِبُّهُ.

اللَّهُمَّ زِدْ في إِيمَانِنَا حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنَا إلا مَا كَتَبْتَهُ لَنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 9/ ذو القعدة /1437هـ، الموافق: 12/آب / 2016م

 2016-08-11
 258917
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

26-04-2024 18 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 18
19-04-2024 231 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 231
12-04-2024 932 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 932
09-04-2024 607 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 607
04-04-2024 711 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 711
28-03-2024 641 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 641

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413926633
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :