مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم
100ـ حذيفة كاتم الأسرار
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِ الحَقِّ أَنَّهُ حَافِظٌ للـسِّرِّ، فَلَا يُـفْشِي سِرَّاً اسْتَأْمَنَهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الإِيمَانِ.
حِفْظُ السِّرِّ دَلِيلٌ عَلَى رُجُولَةِ المَرْءِ، وَقُوَّةِ شَخْصِيَّتِهِ، وَمَتَانَةِ خُلُقِهِ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ صَفْوَةُ الرِّجَالِ مِمَّنْ تَرَبَّى عَلَى يَدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَرَشَفَ مِنْ رَحِيقِ هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
لَقَدْ كَانَ حِفْظُ السِّرِّ خُلُقَاً بَارِزَاً مِنْ أَخْلَاقِ الصَّحَابَةِ وَآلِ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَعَادَةً مِنْ عَادَاتِهِمُ الحَمِيدَةِ، حَتَّى شَمَلَتِ النِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟
قُلْتُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ.
قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟
قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ.
قَالَتْ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَدَاً.
قَالَ أَنَسٌ: وَاللهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدَاً لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ.
لَقَدْ شَاهَدَتْ أُمُّ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ابْنَهَا حَرِيصَاً عَلَى حِفْظِ سِرِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَعَزَّزَتْ فِيهِ هَذَا الحِرْصَ إِذْ طَلَبَتْ مِنْهُ أَلَّا يُخْبِرَ بِسِرِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَدَاً.
هَذِهِ هِيَ تَرْبِيَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا هُوَ المُسْتَوَى الرَّفِيعُ الذي رُفِعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
سَيِّدُنَا حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَاتِمُ أَسْرَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مِنْ أَبْرَزِ صِفَاتِهِ أَنَّهُ كَانَ كَاتِمَ أَسْرَارِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ كَانَ عَيْنَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في المُنَافِقِينَ، بَعْدَ أَنْ سَمَّاهُمْ لَهُ وَاحِدَاً وَاحِدَاً، يَرْصُدُ حَرَكَاتِهِمْ، وَيُرَاقِبُ تَـصَرُّفَاتِهِمْ، وَيَتَعَقَّبُ مُؤَامَرَاتِهِمْ.
كَانَ الوَحِيدَ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ الذي خَصَّهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ المَهَمَّةِ، وَأَوْدَعَهُ هَذَا السِّرَّ حَتَّى اشْتُهِرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ بِصَاحِبِ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
روى الإمام البخاري عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا دَخَلَ المَسْجِدَ، قَالَ: اللَّهُمَّ يَـسِّرْ لِي جَلِيسَاً صَالِحَاً، فَجَلَسَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِمَّنْ أَنْتَ؟
قَالَ: مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ.
قَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ، أَوْ مِنْكُمْ، صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ ـ يَعْنِي حُذَيْفَةَ ـ؟
قَالَ: قُلْتُ: بَلَى.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَعْلَمَ الصَّحَابَةِ بِالمُنَافِقِينَ، بَلْ وَكَانَ مُسْتَوْدَعَاً لِأَسْرَارٍ كَثِيرَةٍ، وَأَخْبَارٍ وَفِيرَةٍ، بِدَلِيلِ مَا جَاءَ في الإِصَابَةِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
حَافِظُ السِّرِّ طُولَ حَيَاتِهِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مُؤْتَمَنَاً عَلَى أَسْرَارِ المُنَافِقِينَ طُولَ حَيَاتِهِ، وَظَلَّ الخُلَفَاءُ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ في أَمْرِهِمْ، حَتَّى إِنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَسْأَلُ حُذَيْفَةَ: أَفِي عُمَّالِي أَحَدٌ مِنَ المُنَافِقِينَ؟
قَالَ: نَعَم، وَاحِدٌ.
قَالَ: مَنْ هُوَ؟
قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ.
قَالَ حُذَيْفَةُ: فَعَزَلَهُ كَأَنَّمَا دُلَّ عَلَيْهِ.
وَكَانَ عُمَرُ إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَسْأَلُ عَنْ حُذَيْفَةَ فَإِنْ حَضَرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ صَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ حُذَيْفَةُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْضُرْ عُمَرُ. كذا في أسد الغابة.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ حِفْظَ الأَسْرَارِ وَكِتْمَانَهَا أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ، يَجِبُ الوَفَاءُ بِهَا، وَقَدْ حَثَّنَا عَلَيْهَا الشَّرْعُ الشَّرِيفُ، وَحَذَّرَنَا مَنْ إِفْشَاءِ الأَسْرَارِ وَالتَّفْرِيطِ فِيهَا، قَالَ تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولَاً﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾.
وَعَلَى مَنْ أُودِعَ سِرَّاً أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يُفْشِيَهُ أَبَدَاً، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَائِنَاً، وَاتَّصَفَ بِصِفَةٍ مُشَابِهَةٍ للمُنَافِقِ الذي إِذَا اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ خَانَهُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقَاً خَالِصَاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُحَافَظَةَ عَلَى الأَسْرَارِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا الخُلَّصُ مِنَ النَّاسِ، وَوُجُودُ هَؤُلَاءِ بَيْنَ النَّاسِ عَزِيزٌ وَنَادِرٌ.
يَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِنَّمَا تُجَالَسُونَ بِالأَمَانَةِ، كَأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الخِيَانَةَ لَيْسَتْ إِلَّا في الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، إِنَّ الخِيَانَةَ أَشَدَّ الخِيَانَةِ أَنْ يُجَالِسَنَا الرَّجُلُ فَنَطْمَئِنَّ إلى جَانِبِهِ، ثُمَّ يَنْطَلِقَ فَيَسْعَى بِنَا إلى شَرَارَةٍ مِنْ نَارٍ. كذا في إحياء علوم الدين.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الخميس: 23/ رجب /1438هـ، الموافق: 20/ نيسان / 2017م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... المزيد
الحِرْصُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالأَوْلَادِ مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الأَبَوَيْنِ مَسْؤُولَانِ عَنِ الذُّرِّيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ ... المزيد
إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في ... المزيد
لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ ... المزيد
إِنَّ حُبَّ اللهِ تعالى، وَحُبَّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِيَانِ للإِنْسَانِ الكَمَالَ وَالشَّرَفَ وَالعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ وَالمَكَانَةَ، بَلْ يُعْطِيَانِ الُمؤْمِنَ القُدْرَةَ ... المزيد
زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعُدَّةُ الزَّمَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى الشَّبَابُ النَّاشِؤُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، الذينَ تَكَادُ أَنْ لَا تَعْرِفَ لَهُمْ زَلَّةً، أَو تُعْهَدَ عَنْهُمْ صَبْوَةٌ، الذينَ يَتَسَابَقُونَ في مَيَادِينِ ... المزيد