مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم
109ـ فإن تسلم فلك مهري، ولا أسألك غيره
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ عَشِقَ الإِسْلَامَ وَذَابَ فِيهِ، وَجَعَلَهُ كُلَّ شَيْءٍ في حَيَاتِهِ وَوُجُودِهِ، وَوَهَبَهُ كُلَّ وَقْتِهِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، كَانَ عَلَى قَدَمِ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَبْشَرَ بِالخَيْرِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ هَمُّ الصَّحَابَةِ وَآلِ البَيْتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ الأَوَّلُ وَالأَخِيرُ هُوَ الإِسْلَامُ، فَصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ تعالى عَلَيْهِ، فَبَذَلُوا كُلَّ شَيْءٍ في سَبِيلِهِ، وَبَذَلُوا جُهْدَهُمْ في إِيصَالِهِ للآخَرِينَ لِإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالضَّلَالِ إلى الإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالهِدَايَةِ.
إِنْ أَسْلَمْتَ، فَقَدْ رَضِيتُ بِالإِسْلَامِ مِنْكَ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الشَّيْءُ الغَرِيبُ الذي مَا عَرَفَتْهُ الـبَشَرِيَّةُ مِنْ قَبْلُ، أَنَّ قِصَّةَ إِسْلَامِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى يَدِ الصَّحَابِيَّةِ الجَلِيلَةِ أُمِّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَ أَمْرَاً عَجَبَاً، وَأَقْوَى شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ.
لَمَّا مَاتَ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ عَلَى الـشَّرْكِ، مَا حَزِنَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ، وَقَالَتْ: لَا جَرَمَ، لَا أَفْطِمُ أَنَسَاً حَتَّى يَدَعَ الثَّدْيَ حَيَّاً، وَلَا أَتَزَوَّجُ حَتَّى يَأْمُرَنِي أَنَسٌ.
وفي رِوَايَةٍ: لَا أَتَزَوَّجُ حَتَّى يَبْلُغَ أَنَسٌ وَيَجْلِسَ في المَجَالِسِ فَيَقُولَ: جَزَى اللهُ أُمِّي عَنِّي خَيْرَاً لَقَدْ أَحْسَنَتْ وِلَايَتِي. كَذَا في الطَّبَقَاتِ الكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ.
لَمَّا بَلَغَ سَيِّدُنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ العُمُرِ وَالشَّبَابِ مَا تَمَنَّتْ أُمُّهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، تَقَدَّمَ إِلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ خَاطِبَاً، وَقَالَ لَهَا: قَدْ جَلَسَ أَنَسٌ وَتَكَلَّمَ في المَجَالِسِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَكِ عُذْرٌ في الامْتِنَاعِ عَنِ الزَّوَاجِ، وَرَفْضِ الرَّاغِبِينَ في الزَّوَاجِ مِنْكِ مِثْلِي.
فَأَجَابَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَهِيَ تَتَوَهَّجُ إِسْلَامَاً وَإِيمَانَاً وَالْتِزَامَاً، وَقَدْ تَحَرَّرَتْ مِنْ أَيِّ ضَغْطٍ نَـفْسِيٍّ أَو مَعَاشِيٍّ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَمَا إِنِّي فِيكَ لَرَاغِبَةٌ، وَمَا مِثْلُكَ في الرِّجَالِ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ امْرُؤٌ كَافِرٌ، وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ؛ فَإِنْ تُسْلِمْ فَلَكَ مَهْرِي، وَلَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ.
وَعَجِبَ أَبُو طَلْحَةَ لِهَذَا التَّغَيُّرِ العَجِيبِ في نَفْسِيَّةِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَعَجِبَ لِهَذَا الزُّهْدِ بِالمَهْرِ وَالصَّدَاقِ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ، فَمَا تُرِيدُ مِنْهُ غَيْرَ الإِسْلَامِ مَهْرَاً لِزَوَاجِهِمَا.
قَالَ لَهَا وَالدَّهْشَةُ تَكَادُ تَعْقِدُ لِسَانَهُ: لَا وَاللهِ مَا هَذَا دَهْرُكِ (أَيْ: لَيْسَتْ هَذِهِ عَادَتُكِ).
قَالَتْ: فَمَا دَهْرِي؟
قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: دَهْرُكِ في الصَّفْرَاءِ وَالبَيْضَاءِ (أَيْ: عَهْدِي فِيكِ الحِرْصُ عَلَى الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ).
قَالَتْ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ، فَقَدْ رَضِيتُ بِالإِسْلَامِ مِنْكَ.
قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا؟
قَالَتْ: يَا أَنَسُ، قُم فَانْطَلِقْ مَعَ عَمِّكَ.
فَقَامَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِجَابَةً لِطَلَبِ أُمِّهِ؛ قَالَ أَنَسٌ: فَوَضَعَ أبُو طَلْحَةَ يَدَهُ عَلَى عَاتِقِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا قَرِيبَاً مِنْ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَ كَلَامَنَا.
فَقَالَ: «هَذَا أَبُو طَلْحَةَ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ غُرَّةُ الإِسْلامِ».
حَتَّى جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فَزَوَّجَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ عَلَى الإِسْلامِ. رواه البزار.
وروى الحاكم في المُسْتَدْرَكِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَطَبَ أُمَّ سُلَيْمٍ.
فَقَالَتْ: «يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ إِلَهَكَ الَّذِي تَعْبُدُ خَشَبَةٌ نَبَتَتْ مِنَ الْأَرْضِ، نَجَرَهَا حَـبَشِيُّ بَنِي فُلَانٍ، إِنْ أَنْتَ أَسْلَمْتَ لَمْ أَرِدْ مِنْكَ مِنَ الصَّدَاقِ غَيْرَهُ».
قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي.
قَالَ: فَذَهَبَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ.
قَالَتْ: يَا أَنَسُ، زَوِّجْ أَبَا طَلْحَةَ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِشَرْحِ صَدْرِهِ للإِسْلَامِ، وَحَبَّبَ إلى قَلْبِهِ الإِيمَانَ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، فَإِنَّهُ يَعْشَقُ دِينَ اللهِ تعالى، وَيَبْذُلُ كُلَّ مَا في وُسْعِهِ في إِنْقَاذِ النَّاسِ مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى، وَمِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، وَمِنَ المَعَاصِي إلى الطَّاعَاتِ، وَيَعْتَبِرُ الدَّعْوَةَ إلى اللهِ تعالى وَإلى دِينِهِ مِنْ أَجَلِّ وَأَعْظَمِ وَأَنْفَعِ الأَعْمَالِ التي يُؤَدِّيهَا وَيَحْتَسِبُهَا لِآخِرَتِهِ، وَيَضَعُهَا في مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ.
بَلْ تَكُونُ الدَّعْوَةُ إلى اللهِ تعالى هَمَّهُ الذي يُقْعِدُهُ وَيُقِيمُهُ، وَيُفَكِّرُ فِيهَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، لِأَنَّهَا سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِأَنَّهَا مُهِمَّةُ سَيِّدِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي قَالَ لَهُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾.
فَأَيْنَ رِجَالُنَا مِنْ رِجَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؟ وَأَيْنَ نِسَاؤُنَا مِنْ نِسَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ؟
اللَّهُمَّ شَرِّفْنَا بِامْتِثَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيَةً». آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الخميس: 20/ صفر الخير /1439هـ، الموافق: 9/ تشرين الثاني / 2017م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... المزيد
الحِرْصُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالأَوْلَادِ مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الأَبَوَيْنِ مَسْؤُولَانِ عَنِ الذُّرِّيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ ... المزيد
إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في ... المزيد
لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ ... المزيد
إِنَّ حُبَّ اللهِ تعالى، وَحُبَّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِيَانِ للإِنْسَانِ الكَمَالَ وَالشَّرَفَ وَالعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ وَالمَكَانَةَ، بَلْ يُعْطِيَانِ الُمؤْمِنَ القُدْرَةَ ... المزيد
زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعُدَّةُ الزَّمَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى الشَّبَابُ النَّاشِؤُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، الذينَ تَكَادُ أَنْ لَا تَعْرِفَ لَهُمْ زَلَّةً، أَو تُعْهَدَ عَنْهُمْ صَبْوَةٌ، الذينَ يَتَسَابَقُونَ في مَيَادِينِ ... المزيد