609ـ خطبة الجمعة: الاستعداد ليوم الرحيل (2)
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الغَفْلَةَ عَنِ اللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ هِيَ رَأْسُ الدَّاءِ، وَصَمِيمُ البَلَاءِ، وَهُنَاكَ مَنْ يَسْتَهِينُ بِعَذَابِ الآخِرَةِ، وَيَقُولُ جَادَّاً أَو مَازِحَاً: إِنْ هِيَ إِلَّا سَاعَاتٌ في النَّارِ ثُمَّ نَخْرُجُ مِنْهَا، وَهُنَاكَ مَنْ يَقُولُ: هُوَ عَذَابٌ رُوحِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ لَيْسَ إِلَّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾.
أَيْنَ هَؤُلَاءِ العَابِثُونَ مِنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارَاً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَاً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزَاً حَكِيمَاً﴾؟
يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ مَا نَجَا أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَبُـشِّرُوا بِمَا بُشِّرُوا بِهِ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا بِحُبِّهِمْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِخَوْفِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَبِعَدَمِ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، لَقَدْ كَانُوا يَخَافُونَ مِنْ عَذَابِهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، وَهَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَوْ نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ دَاخِلُونَ الْجَنَّةَ كُلُّكُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا رَجُلَاً وَاحِدَاً، لَخِفْتُ أَنْ أَكُونَ هُوَ، وَلَوْ نَادَى مُنَادٍ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ دَاخِلُونَ النَّارَ إِلَّا رَجُلَاً وَاحِدَاً، لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ هُوَ. رواه أبو نعيم في الحلية.
وَقَرَأَ ذَاتَ يَوْمٍ قَوْلَهُ تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾. فَبَكَى وَاشْتَدَّ في بُكَائِهِ حَتَّى مَرِضَ وَعَادُوهُ.
وَكَانَ يَمُرُّ بِالآيَةِ في وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ فَتُخِيفُهُ، فَيَبْقَى في البَيْتِ أَيَّامَاً يُعَادُ، يَحْسَبُونَهُ مَرِيضَاً، وَكَانَ في وَجْهِهِ خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنَ البُكَاءِ.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَصَّرَ اللهُ بِكَ الأَمْصَارَ، وَفَتَحَ بِكَ الفُتُوحَ وَفَعَلَ.
فَقَالَ عُمَرُ: وَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو لَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ.
وَوَقَفَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى القَبْرِ فَبَكَى حَتَّى تَبَلَّلَتْ لِحْيَتُهُ، وَقَالَ: لَو أَنَّنِي بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا أَدْرِي إلى أَيَّتِهِمَا يُؤْمَرُ بِي، لَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ رَمَادَاً قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ إلى أَيَّتِهِمَا أَصِيرُ. /كذا في فصل الخطاب.
﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾:
يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ بِأَنَّا نَسْتَقْبِلُ في هَذِهِ الأَيَّامِ الأَشْهُرَ الحُرُمَ الثَّلَاثَةَ التي أَخْبَرَ عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «السَّنَةُ اثْنَا عَـشَرَ شَهْرَاً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَحْذَرْ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ وَمَكْرِهِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى حَذَّرَنَا مِنْهُ، وَبَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ عَدُوٌّ مُبِينٌ لَنَا، وَأَمَرَنَا بِاتِّخَاذِهِ عَدُوَّاً، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوَّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾. وَقَالَ لَنَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلَاً﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَقْسَمَ الشَّيْطَانُ بِعِزَّةِ اللهِ تعالى أَنْ يُغْوِيَنَا جَمِيعَاً إِلَّا المُخْلَصِينَ، قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْ قَوْلِهِ: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ﴾.
وَلْنَكُنْ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ سَوْفَ يَتَبَرَّأُ مِنْ أَتْبَاعِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُـضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ مَا ظَلَمَ العِبَادُ أَنْفُسَهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ يَوْمِ رَحِيلِهِمْ، وَمَا غَفَلُوا عَنْ يَوْمِ رَحِيلِهِمْ إِلَّا بِسَبَبِ قُرَنَاءِ السُّوءِ، مَعَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَيَّنَ لَنَا في القُرْآنِ العَظِيمِ بِأَنَّ قُرَنَاءَ السُّوءِ سَوْفَ يَتَبَرَّؤُونَ مِنْ بَعْضِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾.
اسْتَعِدُّوا لِيَوْمِ رَحِيلِكُمْ يَا عِبَادَ اللهِ، بِتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَخَاصَّةً في الأَشْهُرِ الحُرُمِ، فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، وَتُوبُوا إلى اللهِ تعالى تَوْبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً، فَوَاللهِ غَمْسَةٌ وَاحِدَةٌ في نَارِ جَهَنَّمَ تُنْسِي العَبْدَ كُلَّ نَعِيمٍ كَانَ في مَعْصِيَةٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.
لِيَسْمَعِ مَنِ انْسَاقَ وَرَاءَ شَهَوَاتِهِ، مِنْ حُبِّ النِّسَاءِ، وَحُبِّ المَالِ، فَسَلَكَ كُلَّ مَسْلَكٍ في مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:
روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟
فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ.
وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسَاً فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟
فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا نَكُونَ مِنَ النَّادِمِينَ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 7/ ذو القعدة /1439هـ، الموافق: 20/ تموز / 2018م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد