بر الوالدين
18ـ صلاح الوالدين
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا أَرَادَ الوَالِدَانِ أَنْ يَكُونَ أَبْنَاؤُهُمَا بَارِّينَ بِهِمَا، فَلْيَكُونُوا صَالِحِينَ مُتَّقِينَ اللهَ تعالى، حَتَّى يَحْفَظَ اللهُ تعالى لَهُمَا ذُرِّيَّتَهُمَا في حَيَاتِهِمَا، وَبَعْدَ وَفَاتِهِمَا.
إِذَا كَانَ اللهُ تعالى يَحْفَظُ أَوْلَادَ الصَّالِحِينَ، وَيَحْفَظُ لَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، أَلَا يَحْفَظُ أَخْلَاقَهُمْ وَيُرَبِّيهِمْ عَلَى أَحْسَنِ الأَخْلَاقِ؟ بَلَى إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
إِذَا خَافَ الوَالِدُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَعَلَيْهِ بِتَقْوَى اللهِ تعالى، لِيَحْفَظِ اللهُ تعالى لَهُ ذُرِّيَّتَهُ، كَمَا قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافَاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلَاً سَدِيدَاً﴾.
وَلَمْ يَقُلْ جَلَّ شَأْنُهُ: فَلْيَجْمَعُوا لَهُمُ الأَمْوَالَ، وَلِهَذَا يَنْبَغِي للمُسْلِمِ أَنْ يَدَّخِرَ لِوَرَثَتِهِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحَ حَتَّى يَحْفَظَهُمُ اللهُ تعالى، فَإِذَا كُنْتَ تَخْشَى عَلَى أَوْلَادِكَ فَاتَّقِ اللهَ تعالى، اتَّقِ اللهَ تعالى حَتَّى يَحْفَظَ اللهُ أَوْلَادَكَ مِنْ بَعْدِكَ، لِأَنَّ بِصَلَاحِ الوَالِدِ حِفْظَ الوَلَدِ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تعالى عَنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا مُوسَى وَالخَضِرِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحَاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾.
فَإِذَا كَانَ اللهُ تعالى حَفِظَ لِهَذَيْنِ الغُلَامَيْنِ كَنْزَاً لَهُمَا ـ لِصَلَاحِ أَبِيهِمَا ـ أَلَا يَحْفَظُهُمَا في أَخْلَاقِهِمَا، وَيَعْكِسُ صَلَاحَ أَبِيهِمَا عَلَيْهِمَا؟ وَالأَخْلَاقُ وَالدِّينُ وَالاسْتِقَامَةُ وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ، أَفْضَلُ وَأَحْسَنُ وَأَثْقَلُ في مِيزَانِ اللهِ تعالى مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَإِذَا حَفِظَ اللهُ تعالى لَهُمَا دُنْيَاهُمَا لِصَلَاحِ أَبِيهِمَا أَلَا يَحْفَظُ اللهُ تعالى لَهُمَا دِينَهُمَا؟ بَلَى إِنَّهُ قَادِرٌ، وَهُوَ المَأْمُولُ بِإِذْنِ اللهِ تعالى.
صَلَاحُ الأَبَوَيْنِ أَمَانٌ للذُّرِّيَّةِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَاللهُ تعالى حَمَى كَنْزَ الوَلَدِ بِبَرَكَةِ صَلَاحِ الوَالِدِ الذي جَعَلَ اللهَ تعالى كَفِيلَاً عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ اللهَ تعالى كَفِيلَاً عَلَى ذُرِّيَّتِهِ فَلْيَتَّقِ اللهَ تعالى، وَلْيَقُلْ قَوْلَاً سَدِيدَاً، قِسْطَانِ مِنْ أَجْلِ التَّأْمِينِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، فَمَنْ قَدَّمَهُمَا للهِ تعالى تَكَفَّلَ اللهُ تعالى بِذُرِّيَّتِهِ، قَالَ تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾. مَاذَا يَفْعَلُونَ؟
هَلْ قَالَ: أَمِّنُوا عَلَيْهِمْ في شَرِكَاتِ التَّأْمِينِ، التي هِيَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ المُقَامَرَةِ التي نَهَى دِينُنَا عَنْهَا؟
رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلَاً سَدِيدَاً﴾. هُمَا القِسْطَانِ للتَّأْمِينِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَقَدْ حُرِمَ الكَثِيرُ مِنَ الأُمَّةِ هَذَا التَّأْمِينِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَلَّمَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَلَاحَ الآبَاءِ سَبَبٌ لِحِفْظِ الأَبْنَاءِ، لَقَدْ عَلَّمَنَا ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ غُلَامٌ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ» رواه الترمذي. أَيْ: احْفَظِ اللهَ تعالى بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَاحْفَظِ اللهَ تعالى بِتَرْكِ نَوَاهِيهِ، وَاحْفَظِ اللهَ تعالى بِالمُحَافَظَةِ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ، فَتَكُونُ النَّتِيجَةُ: حِفْظُ اللهِ تعالى لَكَ في دِينِكَ وَدُنْيَاكَ، وَأَهْلِكَ وَذُرِّيَّتِكَ ﴿فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظَاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا نَتَّقِي اللهَ تعالى، وَنَقُولُ القَوْلَ السَّدِيدَ في جَمِيعِ أَحْوَالِنَا، وَفي جَمِيعِ شُؤُونِنَا، وَعِنْدَمَا تَكُونُ الخَشْيَةُ للهِ تعالى في قُلُوبِنَا، وَاللهِ لَو أَطْبَقَتْ عَلَى ذُرِّيَّتِنَا السَّمَاءُ فَإِنَّ خَشْيَتَنَا للهِ تعالى وَتَقْوَانَا لَهُ وَخَوْفَنَا مِنْهُ يَحْفَظُهُمْ بِإِذْنِ اللهِ تعالى.
لِنَتَّقِ اللهَ تعالى، وَلْنَأْكُلِ الحَلَالَ، وَلْنُطْعِمْ أَبْنَاءَنَا الحَلَالَ، وَلْنُحْسِنْ تَرْبِيَتَهُمْ، لَعَلَّهُمْ بِذَلِكَ يَكُونُونَ بَرَرَةً بِنَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ.
صَلَاحُ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَصَلَاحُ تَرْبِيَتِهِمْ سَبَبٌ بِإِذْنِ اللهِ تعالى لِحِفْظِ الذُّرِّيَّةِ النَّاشِئَةِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا لُقْمَانَ العَبْدِ الصَّالِحِ مَعَ وَلَدِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُـشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
وَقَالَ لَهُ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحَاً إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَكِّرُوا مَاذَا قَدَّمْنَا لِذُرِّيَّتِنَا؟ وَاللهُ لَنْ يُحَقِّقَ لَهُمُ السَّعَادَةَ بِدُونِ تَقْوَى، وَالعِلْمُ لَا يُحَقِّقُ لَهُمُ السَّعَادَةَ بِدُونِ تَقْوَى، وَالزَّوْجَاتُ لَا تُحَقِّقُ لَهُمُ السَّعَادَةَ بِدُونِ تَقْوَى؛ لَا تَتَحَقَّقُ لَهُمُ السَّعَادَةَ إِلَّا إِذَا كُنَّا صَالِحِينَ، وَرَبَّيْنَاهُمْ عَلَى الصَّلَاحِ، لَا تَتَحَقَّقُ لَهُمُ السَّعَادَةَ إِلَّا إِذَا كُنَّا أَتْقِيَاءَ، وَرَبَّيْنَاهُمْ عَلَى التَّقْوَى.
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأحد: 22/ ذو الحجة/1439هـ، الموافق: 2/ أيلول / 2018م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُخَاطِبَهُمَا بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخَاطِبَهُمَا بِالعِبَارَاتِ الحَادَّةِ، وَالكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، وَالغِلْظَةِ ... المزيد
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى ... المزيد
حُقُوقُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِحًا أَمِينًا لَهُمَا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَخَاصَّةً ... المزيد
هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ ... المزيد
مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا. كَيْفَ لَا يَكُونُ ... المزيد
مِنْ فَوَائِدِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ كَمَالُ الإِيمَانِ، وَحُسْنُ الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَهُوَ سَبَبٌ في بَرَكَةِ العُمُرِ، ... المزيد