70ـ الإنفاق على الوالدين الفقيرين

70ـ الإنفاق على الوالدين الفقيرين

70ـ الإنفاق على الوالدين الفقيرين

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» رواه الإمام مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَسُمِّيَتْ أَوْسَاخَ النَّاسِ، لِأَنَّهَا تَطْهِيرٌ لِأَمْوَالِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾. فَهِيَ كَغَسَّالَةِ الأَوْسَاخِ.

وَأَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الوَالِدَيْنِ الفَقِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا كَسْبَ لَهُمَا وَلَا مَالَ، وَاجِبَةٌ في مَالِ الوَلَدِ، حَتَّى لَو كَانَا كَافِرَيْنِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾. فَلَيْسَ مِنَ المَعْرُوفِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ غَنِيًّا وَوَالِدَاهُ يَسْأَلَانِ النَّاسَ وَيَتَكَفَّفَانِ العَيْشَ، أَو أَحَدُهُمَا يَسْأَلُ النَّاسَ وَيَتَكَفَّفُ العَيْشَ؛ هَذَا إِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ؟

قَالَ تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. فَلَيْسَ مِنَ الإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا تَرْكُهُمَا بِدُونِ إِنْفَاقٍ عَلَيْهِمَا.

وَإِذَا أَرَادَ الوَلَدُ أَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةً فَعَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يُقَدِّمَ وَالِدَيْهِ إِذَا كَانَا بِحَاجَةٍ عَلَى غَيْرِهِمَا، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾. فَالوَالِدَانِ هُما أَوْلَى الأَقْرِبَاءِ.

تَوْجِيهُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ وَجَّهَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ للإِنْفَاقِ عَلَى الوَالِدَيْنِ في أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ.

روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ».

وروى ابن ماجه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي.

فَقَالَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».

مَنْ عَرَفَ قَدْرَ الوَالِدَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا التَّشْرِيعِ الشَّرِيفِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّا نَحْنُ الأَبْنَاءَ هِبَةٌ مِنَ اللهِ تعالى لِآبَائِنَا، وَقَدْ جَعَلَنَا اللهُ تعالى مَوْهُوبِينَ لَهُمْ، قَالَ تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾. وَسَيِّدُنَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَا رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾. وَقَالَ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾. وَمَا كَانَ مَوْهُوبًا لَهُ أَخَذَ مَالَهُ كَعَبْدِهِ.

وروى ابن حبان عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ يَقُولُ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ».

فَالوَالِدَانِ إِذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ مُحْتَاجَيْنِ يَأْخُذَانِ مِنْ مَالِ الوَلَدِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَا بِغَيْرِ حَاجَةٍ فَلَا يَجُوزُ الأَخْذُ مِنْ مَالِ الوَلَدِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ نَعْلَمُ بِأَنَّ الشَّرْعَ الحَنِيفَ حَرَّمَ عَلَيْنَا عُقُوقَ الآبَاءِ وَالاُمَّهَاتِ، وَلَيْسَ مِنَ العُقُوقِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ غَنِيًّا ذَا مَالٍ، وَيَتْرُكَ أَبَاهُ أَو جَدَّهُ يَعْمَلَانِ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِمَا حَارِسَيْنِ في البَنَايَاتِ وَالعَمَارَاتِ، أَو مَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِنَ الأَعْمَالِ، أَو يَتْرُكَ أُمَّهُ أَو جَدَّتَهُ تَقُومَانِ بِخِدْمَةِ النَّاسِ، وَتَنْظِيفِ بُيُوتِهِمْ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرْزُقَنَا حَقَّ الحَيَاءِ مِنْهُ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا بَرَرَةً بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 1/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 18/ تشرين الأول / 2020م

 2020-10-18
 1717
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  بر الوالدين

25-10-2020 2278 مشاهدة
71ـ لين الجانب لهما والقول الكريم لهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُخَاطِبَهُمَا بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخَاطِبَهُمَا بِالعِبَارَاتِ الحَادَّةِ، وَالكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، وَالغِلْظَةِ ... المزيد

 25-10-2020
 
 2278
04-10-2020 1044 مشاهدة
69ـ الحرص على هدايتهما (2)

حُقُوقُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِحًا أَمِينًا لَهُمَا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَخَاصَّةً ... المزيد

 04-10-2020
 
 1044
21-09-2020 822 مشاهدة
68ـ الحرص على هدايتهما (1)

هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ ... المزيد

 21-09-2020
 
 822
08-03-2020 1776 مشاهدة
67ـ وجوب توقيرهما وتكريمهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا. كَيْفَ لَا يَكُونُ ... المزيد

 08-03-2020
 
 1776
06-03-2020 1200 مشاهدة
66ـ شكر الله تعالى على ما أنعم (2)

مِنْ فَوَائِدِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ كَمَالُ الإِيمَانِ، وَحُسْنُ الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَهُوَ سَبَبٌ في بَرَكَةِ العُمُرِ، ... المزيد

 06-03-2020
 
 1200
24-02-2020 3085 مشاهدة
65ـ شكر الله تعالى على ما أنعم على الوالدين

عِنْدَمَا سَمِعَ سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ كَلَامَ النَّمْلَةِ تَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا، قَالَ تعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ... المزيد

 24-02-2020
 
 3085

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3164
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414765684
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :