الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدِ اشْتَرَطَ الفُقَهَاءُ لِوُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ شُرُوطَاً، مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بالمَكَانِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدَّاعِي، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالمَدْعُوِّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالوَلِيمَةِ.
فَمِنَ الشُّرُوطِ المُتَعَلِّقَةِ بِالمَكَانِ: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مُنْكَرٌ، فَمَنْ دُعِيَ إلى وَلِيمَةٍ وَعَلِمَ قَبْلَ الحُضُورِ بِوُجُودِ المُنْكَرِ، والذي مِنْ جُمْلَتِهِ الخَمْرُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الحُضُورُ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ عَلَى مَائِدَتِهِ، لِمَا أَخْرَجَهُ الحاكم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ».
إِلَّا إِذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ هَذَا المُنْكَرَ، فَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ المُنْكَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ للدَّعْوَةِ، وَأَنْ يُغَيِّرَ المُنْكَرَ، وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ الحُضُورُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ وُجُودَ المُنْكَرِ قَبْلَ الحُضُورِ وَكَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَرَأَى المُنْكَرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُغَيِّرَ المُنْكَرَ، وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ الجُلُوسُ، لِأَنَّ جُلُوسَهُ في هَذِهِ الحَالَةِ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَبِدُونِ تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، يُعْتَبَرُ إِقْرَارَاً مِنْهُ للمُنْكَرِ، وَهَذَا حَرَامٌ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُقْتَدَى بِهِ: فَإِنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَمْنَعَ المُنْكَرَ، وَإِلَّا صَبَرَ مَعَ الإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ ـ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا في القُلُوبِ ـ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ المُنْكَرُ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَإِذَا كَانَ المُنْكَرُ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الخُرُوجُ، وَلَو لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَا يُقْتَدَى بِهِ، لِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. وَللحَدِيثِ الشَّرِيفِ المُتَقَدِّمِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَإِنَّهُ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْكَ أَنْ تَخْرُجَ لِكَوْنِكَ لَا تَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ المُنْكَرِ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: فَوَجَدْتُ مِنَ الحِكْمَةِ أَنْ لَا أَخْرُجَ حَتَّى لَا أَكْسِرَ خَاطِرَ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ؛ فَإِنِّي أَقُولُ لَكَ: اللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تُرْعَى حُدُودُهُ، فَإِذَا كُنَّا نَسْتَحِي مِنَ المَخْلُوقِ، فَإِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ الخَالِقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى وَأَجْدَرَ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ أَكْثِرْ مِنَ الاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ، وَاجْزِمْ عَلَى أَنْ لَا تَعُودَ إلى مِثْلِ ذَلِكَ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ لَكَ لِحْيَةٌ وَكُنْتَ مِمَّنْ عُرِفَ عَنْكَ الالْتِزَامُ بِدِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْتَكُنْ مِمَّنْ يَعْتَزُّ بِدِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا تُبَرِّرْ لِنَفْسِكَ الجُلُوسَ مَعَ هَؤُلَاءِ في مِثْلِ تِلْكَ الأَمْكِنَةِ مِنْ أَجْلِ تِجَارَتِكَ أَو وَظِيفَتِكَ أَو حَاجَةٍ مِنْ حَوَائِجِكَ إِلَيْهِمْ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ في غَفْلَةٍ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، بِسَبَبِ حِرْصِهِمْ عَلَى أَعْرَاضِ الدُّنْيَا مِنْ تِجَارَةٍ وَوَظِيفَةٍ وَتَعَارُفٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |