6ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا نوح عليه السلام لولده

6ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا نوح عليه السلام لولده

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فإني أسوق لنفسي ولكم وصية سيدنا نوح عليه السلام لابنه، حيث روي أنه عليه السلام قال لابنه: (إني موصيك بوصية وقاصرها كي لا تنساها، أوصيك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين:

أما اللتان أوصيك بهما فيستبشر الله بهما وصالح خلقه، وهما يكثران الولوج على الله تعالى:

أولاً: أوصيك بلا إله إلا الله، فإن السماوات والأرض لو كانتا حلْقة قَصمَتْها، ولو كانت في كفة وزنتها.

ثانياً: وأوصيك بسبحان الله وبحمده، فإنهما صلاة الخلق، وبهما يرزق الخلق.

وأما اللتان أنهاك عنهما، فيحجب الله منهما وصالح خلقه: أنهاك عن الشرك والكِبر). الحديث رواه البزار عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بوصية نوح ابنه؟ قالوا: بلى يا رسول الله، .....).

فيا إخوتي: نعمت الوصية هذه من رسول من أولي العزم من الرسل، لولد من أولاده، ونحن بأمس الحاجة لهذه الوصية، فالإكثار من قول لا إله إلا الله شعار المؤمن، لأن المؤمن علم بأن سعادته يوم القيامة بشفاعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ).

ولكن يا من يكثر من قول لا إله إلا الله اعلم بأن الصادق في قولها تحجزه عن محارم الله. روى الطبراني عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة). قيل: وما إخلاصها؟ قال: (أن تحجزه عن محارم الله).

هذه الكلمة العظيمة هي من تعليم الله عز وجل لسيدنا موسى عليه السلام، كما روى النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال موسى عليه السلام: يا رب علِّمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به، قال: يا موسى لا إله إلا الله. قال موسى: يا رب كل عبادك يقول هذا، قال: قل: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت إنما أريد شيئاً تخصني به. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله).

فلنكثر يا إخوتي من قول لا إله إلا الله، فإنها تجدّد الإيمان، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: (أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ).

أما كلمة سبحان الله وبحمده، فأسأل الله تعالى أن يطلق ألسنتنا بها، وذلك لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ).

فهي من أحب الكلمات إلى الله تعالى، لما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ: (إِنَّ أَحَبَّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ).

وفي رواية ثانية لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْكَلامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ).

أما بالنسبة للشرك أجارنا الله وإياكم من ذلك، فيكفي للتنفير منه قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}، ويكفي أنه ظلم عظيم لذات المشرك، كما قال سيدنا لقمان لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم}أ.

ومن كان يطمع في جنة الله تعالى فليجنِّبْ نفسه الشرك الأصغر والأكبر، والشرك الأصغر أن يشرك بعبادته غير الله تعالى، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.

أما بالنسبة للكِبر الذي هو مفتاح الشقاء، كما قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: مفتاح السعادة التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الكِبر والغفلة. اهـ.

يكفي ما قال الله فيه: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِين}، ومن صُرف عن آيات الله عز وجل وتكبّر صار من الغافلين ومعجباً بنفسه فاستحقَّ الهلاك بعد ذلك.

وليتدبَّر المتكبر قول الله عز وجل: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون}، فما كانت نتيجة هذا المتكبِّر المغرور؟ {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُون} عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة.

يكفي هذا المتكبر أن يكون مصيره إلى نار جهنم، كما قال تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِين}.

ويكفي المتكبِّر الغافل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، كما يروي مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ).

ويكفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما يروي الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ).

وليعلم هذا المتكبر مصيره يوم القيامة من خلال ما رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ).

نسأل الله تعالى أن يكرمني وإياكم بكثرة ذكر الله والإكثار من قول لا إله إلا الله خاصة، وأن تكون آخر كلمة لنا، وأن يوفقنا للتسبيح بحمده، ويجنِّبنا وإياكم الشرك والكِبر آمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونرجوكم دعوة صالحة بظهر الغيب.

** ** **

 

الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  من وصايا الصالحين

05-03-2020 4872 مشاهدة
47ـ وصية أبي الدرداء (4)

لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَضْلاً عَنَ الكَبَائِرِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ ... المزيد

 05-03-2020
 
 4872
27-02-2020 3832 مشاهدة
46ـ وصية أبي الدرداء (3)

مَا أَجْمَلَ الصَّاحِبَ الصَّالِحَ، وَالأَخَ النَّاصِحَ، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِاللهِ تعالى، وَيُذَكِّرُكَ بِالمَهَمَّةِ التي خُلِقْتَ مِنْ أَجْلِهَا، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا. مَا أَكْرَمَ ... المزيد

 27-02-2020
 
 3832
21-02-2020 3016 مشاهدة
45ـ وصية أبي الدرداء (2)

إِنَّ مِمَّا يُرَقِّقُ الطِّبَاعَ؛ وَيَعِظُ الْقُلُوبَ ويُشَنِّفُ الأَسْمَاعَ؛ وَيَدْعُو أَصْحَابَهَا إِلَى الاتِّبَاعِ، مَا جَاءَ فِي وَصَايَا السَّلَفِ؛ التِي هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاعِظِ التُّحَفِ، وَحَسْبُنَا مِنْ وَصَايَا السَّلَفِ ... المزيد

 21-02-2020
 
 3016
06-02-2020 4878 مشاهدة
44ـ وصية أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمِنْ مِيزَاتِهَا التي خَصَّهَا اللهُ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ... المزيد

 06-02-2020
 
 4878
30-01-2020 5205 مشاهدة
43ـ وصية أبي الدرداء لأهل دمشق

طُولُ الأَمَلِ دَاءٌ عُضَالٌ، وَمَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَمَتَى تَمَكَّنَ مِنَ القَلْبِ فَسَدَ مِزَاجَهُ، وَصَعُبَ عِلَاجُهُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ دَاءٌ، وَلَا نَجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ، بَلْ أَعْيَا الأَطِبَّاءَ، وَيَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ الحُكَمَاءُ وَالعُلَمَاءُ، ... المزيد

 30-01-2020
 
 5205
25-10-2014 17473 مشاهدة
42ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا عمر لأبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنهُما

فَإِنَّ لِلنَّاسِ نَفْرَةً عَنْ سُلْطَانِهِمْ، فَأَعُوذُ باللهِ أَنْ يُدْرِكَنِي وَإِيَّاكَ عَمْيَاءُ مَجْهُولَةٌ، وَضَغَائِنُ مَحْمُولَةٌ، فَأَقِمِ الْحُدُودَ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. ... المزيد

 25-10-2014
 
 17473

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414344493
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :