11ـ المعصوم من عصمه الله تعالى

11ـ المعصوم من عصمه الله تعالى

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾

11ـ المعصوم من عصمه الله تعالى

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعَلِّمُنَا دُرُوسَاً في السُّلُوكِ، وَدُرُوسَاً في العَقِيدَةِ، وَدُرُوسَاً في الأَمَانَةِ، وَدُرُوسَاً في العِصْمَةِ وَالحِفْظِ، كَمَا تُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُجْبِرَكَ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ مَا لَا تُرِيدُ فِعْلَهُ.

هَذِهِ الدُّرُوسُ البَلِيغَةُ كُلُّهَا تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تعالى عِنْدَمَا يُخْبِرُنَا عَنْ حَالِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ امْرَأَةِ العَزِيزِ عِنْدَمَا غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ، وَكَانَتْ في حَالَةِ غَفْلَةٍ عَنِ اللهِ تعالى، وَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذي كَانَ في حَالَةِ مُرَاقَبَةٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾.

المَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا الخَبَرُ مِنَ اللهِ تعالى يُعَلِّمُنَا أَنَّ الأَمَانَةَ الحَقِيقِيَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ القُدْرَةِ عَلَى الخِيَانَةِ، وَأَنَّ العِفَّةَ الحَقِيقِيَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ القُدْرَةِ عَلَى الزِّنَا.

هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّمَ الأُمَّةَ كَيْفَ يَكُونُ الحِفَاظُ عَلَى الأَمَانَةِ، مَعَ القُدْرَةِ عَلَى الخِيَانَةِ، وَعَلَّمَ الأُمَّةَ كَيْفَ تَكُونُ العِفَّةُ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى الزِّنَا، عِنْدَمَا غَلَّقَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الأَبْوَابَ ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ فَأَجَابَ جَوَابَ الأَمِينِ العَفِيفِ: ﴿مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾. فَقَدْ عَلَّمَ البَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ أَنَّ المَعْصُومَ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ تعالى، وَأَنَّ المَفْتُونَ مَنْ تَرَكَهُ اللهُ تعالى لِشَهَوَاتِهِ، وَأَنَّهُ مَنْ كَانَ مَعَ اللهِ تعالى في يُسْرِهِ كَانَ اللهُ مَعَهُ في عُسْرِهِ، وَمَنْ كَانَ مَعَ اللهِ في رَخَائِهِ كَانَ اللهُ مَعَهُ في شِدَّتِهِ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ كَفَاهُ، وَمَنْ حَفِظَ اللهَ حَفِظَهُ اللهُ تعالى.

هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُعَلِّمُ البَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ أَنَّ العَالَمَ كُلَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجْبِرَكَ عَلَى فِعْلِ مَا لَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ، لَقَدْ كَانَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ سَيِّدَةً عَلَى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ عَلَيْهِ، وَرَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ في سِنِّ الشَّبَابِ، وَهُوَ في الغُرْبَةِ، وَهُوَ في مَكَانٍ مَأْمُونٍ، وَهُوَ عَازِبٌ، وَهِيَ في غَايَةِ الحُسْنِ وَالجَمَالِ وَالسُّلْطَةِ وَالجَاهِ مَعَ كَمَالِ الرَّغْبَةِ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَاوَمَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ المَعْصِيَةَ، لَا يُرِيدُ الخِيَانَةَ، لَا يُرِيدُ الفَاحِشَةَ.

المُجْتَمَعُ بِحَاجَةٍ إلى طَاهِرِينَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُجْتَمَعَ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى أُنَاسٍ طَاهِرِينَ، يَعْرِفُونَ قُبْحَ هَذِهِ الفَاحِشَةِ ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلَاً﴾.

إِنَّ المُجْتَمَعَ بِحَاجَةٍ أَنْ يَأْخُذَ نَمُوذَجَاً مُشْرِقَاً في العِفَّةِ وَالعَفَافِ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى الزِّنَا، وفي حِفْظِ الأَمَانَةِ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى الخِيَانَةِ، وَفي حُسْنِ التَوَكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى.

وَمَا ظَهَرَتِ الفَوَاحِشُ في المُجْتَمَعِ إِلَّا بِسَبَبِ الخِيَانَةِ، وَتَرْكِ العِفَّةِ، وَنِسْيَانِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى، وَنِسْيَانِ أَوَامِرِ اللهِ تعالى، وَأَوَامِرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنِسْيَانِ الخَوْفِ مِنَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَعَمْ الإِنْسَانُ عِنْدَهُ غَرِيزَةٌ، وَشَهَوَاتٌ، وَلَكِنْ عِنْدَهُ قُرْآنٌ كَرِيمٌ، وَسُنَّةٌ مُطَهَّرَةٌ، وَسِيرَةٌ عَطِرَةٌ لِرِجَالٍ أَطْهَارٍ وَلِنِسَاءٍ طَاهِرَاتٍ.

نَعَمْ الخَوْفُ مِنَ اللهِ تعالى هُوَ أَهَمُّ حَاجِزٍ يَحُولُ بَيْنَ العَبْدِ وَارْتِكَابِ الفَاحِشَةِ، أَهَمُّ حَاجِزٍ يَحُولُ بَيْنَ العَبْدِ وَارْتِكَابِ الخِيَانَةِ، وَأَهَمُّ مُعِينٍ يُعِينُ العَبْدَ عَلَى الابْتِعَادِ عَنِ المَعْصِيَةِ للهِ تعالى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّهُ لَمِنَ العَجِيبِ أَنْ يَسْأَلَ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ عِنْدَمَا يَسْمَعُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾: كَيْفَ يَهُمُّ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ العَفِيفُ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ تعالى في القُرْآنِ العَظِيمِ أَنَّ امْرَأَةَ العَزِيزِ هَمَّتْ لِارْتِكَابِ المَعْصِيَةِ، وَنَفَى الهَمَّ عَنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلِّيَّاً، وَذَلِكَ لِوُجُودِ حَرْفِ: ﴿لَوْلَا﴾ الذي هُوَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾. نَفَى الهَمَّ كُلِّيَّاً، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلَاً﴾. فَهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوا الشَّيْطَانَ لِوُجُودِ فَضْلِ اللهِ تعالى.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَأْخُذِ الدَّرْسَ مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّ الوَرَعَ وَالخَوْفَ مِنَ اللهِ تعالى هُوَ العَاصِمُ بِإِذْنِ اللهِ تعالى مِنَ الوُقُوعِ في أَيِّ مَعْصِيَةٍ وَأَيِّ فَاحِشَةٍ، وَخَاصَّةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ في ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ـ وَعَدَّ مِنْهُمْ ـ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ».

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الخَشْيَةَ مِنْكَ كَأَنَّا نَرَاكَ. آمين.

**    **    **

الاثنين: 20/ شوال /1440هـ، الموافق: 24/حزيران / 2019م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 357 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 357
31-07-2023 385 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 385
08-05-2023 606 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 606
19-04-2023 462 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 462
14-04-2023 341 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 341
11-04-2023 422 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 422

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414390619
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :