30ـ فاطمة الزهراء رضي الله عنها

30ـ فاطمة الزهراء رضي الله عنها

30ـ فاطمة الزهراء رضي الله عنها

 

فاطمة الزهراء رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا:

وُلِدَتْ قَبْلَ البِعْثَةِ بِخَمْسِ سَنَوَاتٍ، وَعَاشَتْ في كَنَفِ أَعْظَمِ وَالِدَيْنِ، وَصَحِبَتْ أَبَاهَا في أَسْعَدِ الأَيَّامِ، ثُمَّ في أَقْسَاهَا مَرَارَةً، وَلَقَدْ كَانَتْ أَحَبَّ أَوْلَادِهِ إِلَيْهِ، صَحِبَتْ أَبَوَيْهَا في حِصَارِ الشِّعْبِ، وَذَاقَتْ مَعَ المُحَاصَرِينَ أَلَمَ الحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، التي شَنَّهَا عَلَيْهِمْ كُفَّارُ مَكَّةَ.

وَهَاجَرَتْ مَعَ أَبِيهَا، بَعْدَمَا فَقَدَتِ الأُمَّ العَظِيمَةَ وَتَرَكَتْهَا في ثَرَى مَكَّةَ الطَّاهِرِ، وَلَقَدْ أَرَادَ اللهُ لِهَذِهِ النَّسْمَةِ الطَّاهِرَةِ أَنْ يَحْفَظَ فِيهَا ذُرِّيَّةَ نَبِيِّهِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَتَزَوَّجَهَا فَتَى الفِتْيَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَحْسَنَ صُحْبَتَهَا، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا الذُّرِّيَّةُ الطَّاهِرَةُ.

وَلَقَدْ هَمَّ عَلِيٌّ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ ـ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ ـ فَغَضِبَ لَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَانْطَلَقَ إلى المَسْجِدِ لِيُعْلِنَ:

«إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ، إِلَّا أَنْ يُحِبَّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا ابْنَتِي بَضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرَهُ أَبَا العَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ في مُصَاهَرَتِهِ فَقَالَ: «حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَأَوْفَى لِي، وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا، وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا، وَلَكِنْ وَاللهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ مَكَانًا وَاحِدًا أَبَدًا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ.

وَلَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ يَغْضَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَكَّرَ بِالزَّوَاجِ مِنْ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ يُؤْثِرُ عَلَى رِضَا اللهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَتْ كَلِمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَالِغَةَ الأَثَرِ عَلَى الإِمَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَا سِيَّمَا حِينَ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَأَنَّهُ وَفَّى لَهُ وَصَدَقَ فِيمَا حَدَّثَهُ، فَعَدَلَ عَنْ فِكْرَةِ الزَّوَاجِ، لَيْسَ مِنِ ابْنَةِ أَبِي جَهْلٍ فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا مِنْ أَيَّةِ امْرَأَةٍ أُخْرَى، إِكْرَامًا لِابْنَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُؤْذَى أَو تُمَسَّ مَشَاعِرُهَا بِسُوءٍ.

هَذَا التَّحْرِيمُ خُصُوصِيَّةٌ للسَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، لِأَنَّ الجَمْعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الضَّرَّةِ يُؤْذِيهَا، وَإِنَّ مَا يُؤْذِيهَا يُؤْذِي سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَإِيذَاءُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الكِتَابِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾.

لَقَد نَهَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ زَوَاجِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

فَإِنَّ فَاطِمَةَ قَد رُزِئَتْ بِأَخَوَاتِهَا جَمِيعًا بَعْدَ أَنْ رُزِئَتْ بَأُمِّهَا، فَلَا تَجِدُ مَن يُوَاسِيهَا في ضَرَّتِهَا، وفي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ إِيذَائِهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ ضَرَّتَهَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ، عَدُوِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَهِيَ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أَفْضَلُ نِسَاءِ العَالَمِينَ بَعْدَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَكَيْفَ بِاجْتِمَاعِهَا عِنْدَ بَطَلِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ الذي تَرَبَّى في بَيْتِ أَبِيهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْرَمَهُ اللهُ بِالإِصْهَارِ إِلَيْهِ، وَفَوْزِهِ بِأَحَبِّ بَنَاتِهِ إِلَيْهِ.

وَقَد بَيَّنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ هَذَا الزَّوَاجَ تَحْرِيمًا لِمَا أَحَلَّ اللهُ في تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَلَكِنَّ المَنْعَ جَاءَ في تَحْرِيمِ إِيذَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنْهُ يُؤْذِيهِ مَا يُؤْذِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيذَاءَهَا بِالضَّرَّةِ فِيهِ انْتِقَاصٌ لَهَا ـ وَهِيَ مِنْ أَكْمَلِ النِّسَاءِ ـ وَإِثَارَةٌ لِغَيْرَةِ الأُنْثَى مِنَ الضَّرَّةِ، وَإِنَّهَا عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهَا وَشَرَفِ انْتِسَابِهَا فَإِنَّهَا تَتَأَذَّى مِنَ الضَّرَّةِ، شَأْنُهَا في ذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ أُنْثَى، وَإِنَّ ذَلِكَ الشُّعُورَ وَمَا يَنْجُمُ عَنْهُ مِنْ كُرْهٍ وَوَجْدٍ عَلَى أَطْرَافِ هَذَا الزَّوَاجِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ تَبْرَأَ مِنْهُ فَاطِمَةُ، لِمَا فِيهِ مِنْ فِتْنَةٍ في دِينِهَا، وَهِيَ تُحِبُّ كَمَا يُحِبُّ أَبُوهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ في قَلْبِهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ شَيْءٌ، وَلَو كَانَتْ بِنْتَ عَدُوِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهَا أَسْلَمَتْ وَصَارَ لَهَا حُقُوقُ المُسْلِمِ كَامِلَةً، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ عَلَى زَوْجِهَا وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِيهَا سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَد تَرَبَّى في بَيْتِهِ، وَكَانَ مِنْ أَوَائِلِ المُؤْمِنِينَ، وَمِنَ العَشَرَةِ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَعْلَى مَقَامَهُ.

وَظَلَّ مُخْلِصًا لَهَا إلى أَنْ تُوُفِّيَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بَعْدَ الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَنَفَّذَ وَصِيَّتَهَا فَتَزَوَّجَ أُمَامَةَ بِنْتَ أُخْتِهَا زَيْنَبَ لِتَرْعَى أَوْلَادَ خَالَتِهَا الرَّاحِلَةِ.

كَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَرِيمَةَ الخُلُقِ، نَبِيلَةَ النَّفْسِ، مُرْهَفَةَ الحِسِّ، سَرِيعَةَ الفَهْمِ، عَمِيقَةَ التَّفْكِيرِ، مُتَوَقِّدَةَ الذِّهْنِ، جَزْلَةَ المُرُوءَةِ، غَرَّاءَ المَكَارِمِ، لَا يُخَالِطُهَا شَيْءٌ مِنَ الزُّهُوِّ وَلَا الخُيَلَاءِ.

وَكَانَتْ سَبْطَةَ (نَاعِمَةَ) الخَلِيقَةِ في سَمَاحَةٍ وَهَوَادَةٍ، إلى رَحَابَةِ صَدْرٍ، وَسَعَةِ أَنَاةٍ، وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَرِفْقٍ وَرَزَانَةٍ، وَعِفَّةٍ وَصِيَانَةٍ.

عَاشَتْ قَبْلَ وَفَاةِ أَبِيهَا مُتَهَلِّلَةَ العِزَّةِ، وَضَّاحَةَ المُحَيَّا، حَسَنَةَ البِشْرِ، بَاسِمَةَ الثَّغْرِ، وَغَرَبَتْ بَسْمَتُهَا مُنْذُ وَفَاةِ أَبِيهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

كَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بَضْعَةً مِنْ أَبِيهَا سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَفْطُورَةً عَلَى العِفَّةِ وَالطُّهْرِ وَالنَّقَاءِ، لَا يَجْرِي لِسَانُهَا بِغَيْرِ الحَقِّ، وَلَا تَنْطِقُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا تَذْكُرُ أَحَدًا بِسُوءٍ، فَلَا غِيبَةَ وَلَا نَمِيمَةَ، وَلَا هَمْزَ وَلَا لَمْزَ، تَحْفَظُ السِّرَّ، وَتَفِي بِالوَعْدِ، وَتَصْدُقُ النُّصْحَ، وَتَقْبَلُ العُذْرَ، وَتَتَجَاوَزُ عَنِ الإِسَاءَةِ، صَادِقَةً في قَوْلِهَا، صَادِقَةً في نِيَّتِهَا، صَادِقَةً في وَفَائِهَا، وَهِيَ تَعْرِفُ أَنَّ زَوْجَهَا عِلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا بَلَغَ مَكَانَتَهُ عِنْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِصِدْقِ الحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ.

عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَصَدَقَ مِنْ فَاطِمَةَ غَيْرَ أَبِيهَا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ؛ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَلْهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَكْذِبُ.

وَفي الاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدَ البَرِّ بِسَنَدِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ فَاطِمَةَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي وَلَدَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَكَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَمِينَةً، حَافِظَةً للسِّرِّ، لَا تَرْضَى لِنَفْسِهَا أَنْ تُذِيعَ لِأَحَدٍ سِرًّا، أَو تُفْشِيَ لَهُ أَمْرًا، وَقَدْ سَمِعَتْ مِنْ زَوْجِهَا قَوْلَهُ: طُوبَى لِكُلِّ عَبْدٍ نُؤَمَةٍ (النُّؤَمَةُ: الصَّمُوتُ المُتَغَافِلُ) عَرَفَ النَّاسَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ، عَرَفَهُ اللهُ بِرِضْوَانٍ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَكْشِفُ اللهُ عَنْهُمْ كُلَّ فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ، سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِالْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ، وَلَا الْجُفَاةِ الْمُرَائِينَ.

لَقَدْ عَاشَتِ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَيَّامَ الدَّعْوَةِ في بِدَايَتِهَا، وَمَا صَاحَبَهَا مِنَ الابْتِلَاءِ وَالمُعَانَاةِ العَظِيمَةِ، فَقَدْ كُتِبَ لَهَا أَنْ تَشْهَدَ المِحْنَةَ وَعِظَمَ البَلَاءِ مُنْذُ طُفُولَتِهَا المُبَكِّرَةِ، وَمُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهَا، وَأَنْ تَعِيشَ دُونَ إِخْوَتِهَا جَمِيعًا مَعَ أَبِيهَا مُنْذُ بَدْءِ الوَحْيِ حَتَّى يَجُودَ البَطَلُ الأَسْمَى، وَالصَّابِرُ العَظِيمُ وَالمُعَلِّمُ الكَبِيرُ بِأَنْفَاسِهِ، وَيَلْحَقَ بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، فَقَدْ كَانَتْ مَعَهُ وَبِجَوَارِهِ، لَمْ تُفَارِقْهُ حَتَّى بَعْدَ زَوَاجِهَا مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَإلى حِينِ انْتِقَالِهِ إلى الرَّفِيقِ الأَعْلَى.

وَقَدْ أَخَذَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي نَحْوَ مَيَادِينِ المَعْرَكَةِ، وَكَانَ صِغَرُ سِنِّهَا يُتِيحُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنَ البَيْتِ وَتَتَحَرَّكَ خَارِجَهُ وَتَتْبَعَ أَبَاهَا حَيْثُ ذَهَبَ، وَتُشَاهِدَهُ وَهُوَ يَدْخُلُ إلى أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ وَمَحَافِلِهَا دَاعِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَيَلْقَى في سَبِيلِ دَعْوَتِهِ وَرِسَالَتِهِ مَا يَلْقَى مِنْ أَذَى السُّفَهَاءِ وَكَيْدِهِمْ.

وَقَدْ أَكْرَمَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى بِأَنْ رَزَقَهَا فِقْهًا وَعِلْمًا، فَهِيَ سَيِّدَةٌ فَقِيهَةٌ فَاضِلَةٌ، لَهَا بَاعٌ طَوِيلٌ لَا يُنْكَرُ في تَبْلِيغِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ، وَالتَّفْقِيهِ بِالقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.

وَلِهَذَا فَعِنْدَمَا نَتَحَدَّثُ عَنْ فِقْهِهَا كَنُصُوصٍ، نَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ مَوَاقِفَ مَحْدُودَةً تَعَرَّضَتْ فِيهَا لِبَعْضِ القَضَايَا الفِقْهِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَتْ تَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، الذي نَوَّرَ قَلْبَهَا وَأَكْرَمَهَا وَجَعَلَهَا وَاحِدَةً مِنْ أَرْبَعٍ هُنَّ سَيِّدَاتُ نِسَاءِ العَالَمِينَ، كُنَّ خَيْرَ نِسَاءِ الأَرْضِ أَجْمَعِينَ.

وَإِنْ كَانَتِ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَدْ شُغِلَتْ بِالمَوَاقِفِ العَظِيمَةِ التي وَقَفَتْهَا، وَالبَلَايَا العَظِيمَةِ التي تَصَدَّتْ لَهَا، فَهِيَ تَقفُ إلى جِوَارِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في كُلِّ المِحَنِ التي مَرَّتْ بِهِ، وَكَانَ لَهَا دَوْرٌ كَبِيرٌ في رِعَايَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَخَاصَّةً بَعْدَ وَفَاةِ أُمِّهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ تعالى، وَلَعَلَّ المَوْقِفَ العَظِيمَ الذي وَقَفَتْهُ، مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ البَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟

فَانْبَعَثَ أَشْقَى القَوْمِ (وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ) فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ.

قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (أَيْ: يَتَمَايَلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَرَحًا وَبَطَرًا). وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ، فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ.

رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَدْ كَانَتْ شُجَاعَةً وَكَانَتْ وَفِيَّةً، كَانَتْ حَيَاتُهَا كُلُّهَا تَعْبِيرًا عَنْ فِقْهِ النُّبُوَّةِ الذي تَلَقَّتْهُ عَنِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْ نَمُوذَجًا للمَرْأَةِ المُسْلِمَةِ الصَّالِحَةِ الكَامِلَةِ التي أَخَذَتْ مِنْ ذَلِكَ اليُنْبُوعِ العَظِيمِ، وَمِنْ أَخْلَاقِ أَبِيهَا وَأَخْلَاقِ أُمِّهَا، وَنَشَأَتْ وَتَرَعْرَعَتْ في مَدْرَسَةِ النُّبُوَّةِ مِمَّا أَعَانَهَا عَلَى القِيَامِ بِتِلْكَ المَهَامِ الأَسَاسِيَّةِ الكُبْرَى.

وَكُلُّ حَيَاةِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ وَعِظَاتٌ، فَفِي صِبَاهَا نَاصَرَتِ الدَّعْوَةَ، وَدَافَعَتْ عَنْ أَبِيهَا، وَفي تَزْوِيجَهَا وَجِهَادِهَا وَصَبْرِهَا عَلَى شَظَفِ العَيْشِ خَيْرُ دَلِيلٍ عَلَى زُهْدِهَا وَصَبْرِهَا، وَهِيَ في كُلِّ ذَلِكَ أُسْوَةٌ للبَنَاتِ المُسْلِمَاتِ في بُيُوتِ الآبَاءِ وَالأَزْوَاجِ، لِتَرْبِيَةِ الأَوْلَادِ أَحْسَنَ مَا تَكُونُ التَّرْبِيَةُ.

وَحَسْبُهَا أَنَّهَا كَانَتْ قُرَّةَ عَيْنِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، تَرَبَّتْ في مَدْرَسَةِ النُّبُوَّةِ، وَفُطِرَتْ عَلَى الذُّرْوَةِ العُلْيَا مِنَ الخُلُقِ الكَرِيمِ، وَحَسْبُهَا مَا لَقَّبَهَا بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ أَبِيهَا» رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ.

وَحَسْبُهَا مَا قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَرْضَى لِرِضَاهَا وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهَا» كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَمَا عَوَّذَهَا بِهِ عِنْدَمَا أَدْخَلَهَا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 5/ جمادى الآخرة /1444هـ، الموافق: 29/كانون الأول / 2022م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع أمهاتنا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

12-01-2024 169 مشاهدة
37ـ الطاهرة سيدة الشعب

وَدَعُونَا الآنَ نَتَتَبَّعُ جَانِبًا مِنَ السِّيرَةِ العَطِرَةِ لِهَذِهِ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ، وَصَبْرِهَا وَاحْتِسَابِهَا وَحُبِّهَا وَحَدْبِهَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ في ... المزيد

 12-01-2024
 
 169
30-12-2023 191 مشاهدة
36ـ صلاتها مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَقْرَبَ مَا تَكُونُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تُتَابِعُهُ، وَتَقْتَدِي بِهِ، وَتَسْمَعُ مِنْهُ وَتَحْفَظُ لَهُ، وَتَسْعَى ... المزيد

 30-12-2023
 
 191
24-11-2023 260 مشاهدة
35ـ البشرى

حُبِّبَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخَلْوَةُ، فَكَانَ يَذْهَبُ إلى غَارِ حِرَاءٍ يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، ثُمَّ يَعُودُ إلى خَدِيجَةَ لِيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا. ... المزيد

 24-11-2023
 
 260
11-09-2023 382 مشاهدة
34ـ بدء الوحي

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مُشْرِقَةٌ مِنْ صُوَرِ حَيَاةِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ، فَمَا إِنْ حَدَّثَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ حَتَّى ... المزيد

 11-09-2023
 
 382
10-08-2023 263 مشاهدة
33ـ أيام حراء

مُنْذُ ضَمَّهَا البَيْتُ السَّعِيدُ قَامَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِوَاجِبِهَا كَامِلًا نَحْوَ زَوْجِهَا الحَبِيبِ، فَمَلَأَتْ أَيَّامَهُ سَعَادَةً وَهَنَاءً، تَتَحَسَّسُ مَرَاضِيَهُ فَتُسَارِعُ إِلَيْهَا، وَتَجْعَلُ نَفْسَهَا وَمَالَهَا ... المزيد

 10-08-2023
 
 263
09-03-2023 261 مشاهدة
32ـ حياة السيدة خديجة من الزواج إلى البعثة

السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا جُبِلَتْ عَلَى فِطْرَةٍ كَرِيمَةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ عَالِيَةٍ وَحَنَانٍ فَيَّاضٍ، مَا إِنْ تَزَوَّجَتْ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ... المزيد

 09-03-2023
 
 261

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3163
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414663778
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :