الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد روى الإمام أحمد والطبراني والحاكم عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ، أَنَّ سَعْدَ بن مَالِكٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما دخلا على سلمان الفارسي رضي الله عنه يعودانه، فبكى، فقالا: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قَالَ: عَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْفَظْهُ أَحَدٌ مِنَّا، قَالَ: (لِيَكُنْ بَلاغُ أَحَدِكُمْ، كَزَادِ الرَّاكِبِ).
فقال له سعد رضي الله عنه: يا أبا عبد الله، اعهد إلينا بعهد نأخذ به بعدك، فقال: يا سعد، اذكر الله عند هَمِّك إذا هَمَمْتَ، وعند يدك إذا قَسَمْتَ، وعند حُكْمِكَ إذا حكمت.
فلما مات رضي الله عنه نظروا في بيته فلم يروا إلا إكافاً ووطاءً ومتاعاً قُوِّم نحواً من عشرين درهماً.
راحة القلب بالزهد في الدنيا:
شقاء أكثر الناس اليوم بسبب الحرص على الدنيا، ولو زهد الناس في الدنيا لاستراحت قلوبهم، وهذا ما أوصى به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه، جاء في صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ). وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.
والذي يعين على الزهد خمسة أمور:
أولاً: علم العبد بأن الدنيا ظل زائل، وخيال زائر، فهي كما قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}.
لذلك نهانا الله تعالى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير}.
ثانياً: علم العبد أن وراء هذه الدار دار أعظم منها قدراً، وأجلُّ خطراً، وهي دار البقاء، فالزهد في الدنيا لكمال الرغبة فيما أعظم منها ألا وهي دار البقاء، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون}.
ثالثاً: علم العبد وإيمانه الحقُّ بأن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كُتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يُقضَ له منها، فمتى تيقَّن ذلك ثلج له صدره، وعلم أن مضمونه منها سيأتيه.
أخرج الترمذي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الناس، فقال: «هلمُّوا إلي»، فأقبلوا إليه فجلسوا، فقال: «هذا رسول رب العالمين جبريل نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنَّكم استبطاءُ الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعته» رواه البزار.
رابعاً: علم العبد بأن الدنيا مدبرة، والآخرة مقبلة، كما يقول سيدنا علي رضي الله عنه: (ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتْ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ) رواه البخاري تعليقاً.
خامساً: علم العبد بأنه ليس له من هذه الدنيا إلا طعامه وشرابه ولباسه وصدقته. روى الإمام مسلم عن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟).
فهذه الأمور تعين العبد على الزهد في الدنيا وتثبت قدمه في مقامه.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة. آمين. آمين. آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
** ** **
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَضْلاً عَنَ الكَبَائِرِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ ... المزيد
مَا أَجْمَلَ الصَّاحِبَ الصَّالِحَ، وَالأَخَ النَّاصِحَ، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِاللهِ تعالى، وَيُذَكِّرُكَ بِالمَهَمَّةِ التي خُلِقْتَ مِنْ أَجْلِهَا، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا. مَا أَكْرَمَ ... المزيد
إِنَّ مِمَّا يُرَقِّقُ الطِّبَاعَ؛ وَيَعِظُ الْقُلُوبَ ويُشَنِّفُ الأَسْمَاعَ؛ وَيَدْعُو أَصْحَابَهَا إِلَى الاتِّبَاعِ، مَا جَاءَ فِي وَصَايَا السَّلَفِ؛ التِي هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاعِظِ التُّحَفِ، وَحَسْبُنَا مِنْ وَصَايَا السَّلَفِ ... المزيد
إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمِنْ مِيزَاتِهَا التي خَصَّهَا اللهُ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ... المزيد
طُولُ الأَمَلِ دَاءٌ عُضَالٌ، وَمَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَمَتَى تَمَكَّنَ مِنَ القَلْبِ فَسَدَ مِزَاجَهُ، وَصَعُبَ عِلَاجُهُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ دَاءٌ، وَلَا نَجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ، بَلْ أَعْيَا الأَطِبَّاءَ، وَيَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ الحُكَمَاءُ وَالعُلَمَاءُ، ... المزيد
فَإِنَّ لِلنَّاسِ نَفْرَةً عَنْ سُلْطَانِهِمْ، فَأَعُوذُ باللهِ أَنْ يُدْرِكَنِي وَإِيَّاكَ عَمْيَاءُ مَجْهُولَةٌ، وَضَغَائِنُ مَحْمُولَةٌ، فَأَقِمِ الْحُدُودَ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. ... المزيد