4ـ من وصايا الصالحين: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً}(2)

4ـ من وصايا الصالحين: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً}(2)

 

الصلاة قرة عين ونعيم روح

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فالدنيا سجن المؤمن يشعر فيها بالضيق، ولكن إذا دخل في الصلاة وجدها قرة عين، ونعيم روح، وجنة قلب، ومستراحه في الدنيا.

وهي صلة بين العبد وربه، وتذكر العبد بدوام مراقبته لله عز وجل، فيحسن باطنه كما يحسن ظاهره، وفيها قوة خُلقية هائلة، وإحياء للضمائر المؤمنة تأمرها بالخير وتنهاها عن الشر.

وبتكرارها في اليوم والليلة خمس مرات يكون تطهيراً روحياً للمسلم، يتطهر بها من غفلات قلبه، وزلات لسانه، ومقترفات جوارحه.

وبأدائها جماعة تجمع المصلين ليقفوا في محراب العبودية لله عز وجل جميعاً، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، ولا حاكم ومحكوم، ولا غني وفقير، ولا قوي وضعيف، الجميع راكع ساجد بين يدي الله عز وجل، يخلفون أقدارهم الدنيوية خلف ظهورهم ليكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وتفقد الجميعُ أحوالَ الجميعِ.

هذه الصلاة تعطي ثمارها إذا أقامها المسلم إقامة، لا إذا أداها أداء، فالله عز وجل أمر عباده بإقامة الصلاة فقال جل شأنه: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون}. وقال: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}. وقد توسعنا في اللقاء السابق مع الآيات الكريمة التي تحضنا على إقامة الصلاة.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحض أمته على أداء الصلاة وإقامتها، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وفد عبد القيس بقوله صلى الله عليه وسلم: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا إلى الله خمس ما غنمتم...) رواه البخاري.

وهذا سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. رواه البخاري.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُرَغِّب في الصلاة، ويعلم أمته ثمرات هذه الصلاة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط) رواه مسلم.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: الله اغفر له الله ارحمه، حتى ينصرف أو يحدث) رواه مسلم.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) رواه البخاري ومسلم.

وتجسد هذا كله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعل قرةُ عيني في الصلاة) رواه النسائي. لذلك كان يخاطب بلالاً رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها) رواه أبو داود.

فيا من ضاق صدره لأحداث الدنيا عليك بإقامة الصلاة، ألم تسمع قول الله عز وجل: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.

ويا من يريد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذلك. قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود).

وانظر يا أخي إلى صلاتك واهتم بها، والله إنها تستحق منك أن تعيرها اهتمامك، لأن بإقامتها إقامة لدينك، وبضياعها ضياع الدين.

اسمع ما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

والناس في الصلاة على مراتب خمس:

أحدها: مرتبة الظالم لنفسه المفرط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.

الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار.

الثالث: من يحافظ على حدودها وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته، فهو في صلاة وجهاد.

الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبَهُ مراعاةُ حدودها وحقوقها لئلا يضيع شيئاً منها، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبَهُ شأنُ الصلاةِ وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.

الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل، ناظراً بقلبه إليه، مراقباً له، ممتلئاً من محبته وعظمته كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل، قرير العين به.

فالقسم الأول معاقب، والثاني محاسب، والثالث مكفَّرٌ عنه، والرابع مثاب، والخامس مقرَّبٌ من ربه عز وجل. اهـ.

فيا من يحب القرب من الله تعالى:

حافظ على الرواتب، قال صلى الله عليه وسلم: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة بنى الله عز وجل له بيتاً في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر) رواه النسائي.

وحافظ على صلاة الضحى، فقد روى الإمام مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام.

وروى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب، قال: وهي صلاة الأوابين).

وحافظ على صلاة الأوابين، وهي ست ركعات بعد المغرب، فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء عُدلن له بعبادة ثنتي عشرة سنة) والحديث ضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، وتندرج هذه الصلاة تحت قول الله عز وجل في الحديث القدسي: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمعه به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.

وحافظ على صلاة قيام الليل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم) رواه مسلم.

وحافظ على التهجد، امتثالاً لقول الله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}. وروى أبو داود عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً.

أخي الكريم: لا تقصر ولا تفرط، واغتنم خمساً قبل خمس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك) رواه ابن أبي شيبة والحاكم.

فبالنوافل تكون محبوباً وتدل على صدق محبتك لله عز وجل، لأنه قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}، وكما جاء في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، آمين آمين آمين. والحمد لله رب العالمين.

**     **     **

الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  من وصايا الصالحين

05-03-2020 4872 مشاهدة
47ـ وصية أبي الدرداء (4)

لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَضْلاً عَنَ الكَبَائِرِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ ... المزيد

 05-03-2020
 
 4872
27-02-2020 3832 مشاهدة
46ـ وصية أبي الدرداء (3)

مَا أَجْمَلَ الصَّاحِبَ الصَّالِحَ، وَالأَخَ النَّاصِحَ، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِاللهِ تعالى، وَيُذَكِّرُكَ بِالمَهَمَّةِ التي خُلِقْتَ مِنْ أَجْلِهَا، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا. مَا أَكْرَمَ ... المزيد

 27-02-2020
 
 3832
21-02-2020 3016 مشاهدة
45ـ وصية أبي الدرداء (2)

إِنَّ مِمَّا يُرَقِّقُ الطِّبَاعَ؛ وَيَعِظُ الْقُلُوبَ ويُشَنِّفُ الأَسْمَاعَ؛ وَيَدْعُو أَصْحَابَهَا إِلَى الاتِّبَاعِ، مَا جَاءَ فِي وَصَايَا السَّلَفِ؛ التِي هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاعِظِ التُّحَفِ، وَحَسْبُنَا مِنْ وَصَايَا السَّلَفِ ... المزيد

 21-02-2020
 
 3016
06-02-2020 4879 مشاهدة
44ـ وصية أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمِنْ مِيزَاتِهَا التي خَصَّهَا اللهُ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ... المزيد

 06-02-2020
 
 4879
30-01-2020 5205 مشاهدة
43ـ وصية أبي الدرداء لأهل دمشق

طُولُ الأَمَلِ دَاءٌ عُضَالٌ، وَمَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَمَتَى تَمَكَّنَ مِنَ القَلْبِ فَسَدَ مِزَاجَهُ، وَصَعُبَ عِلَاجُهُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ دَاءٌ، وَلَا نَجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ، بَلْ أَعْيَا الأَطِبَّاءَ، وَيَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ الحُكَمَاءُ وَالعُلَمَاءُ، ... المزيد

 30-01-2020
 
 5205
25-10-2014 17473 مشاهدة
42ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا عمر لأبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنهُما

فَإِنَّ لِلنَّاسِ نَفْرَةً عَنْ سُلْطَانِهِمْ، فَأَعُوذُ باللهِ أَنْ يُدْرِكَنِي وَإِيَّاكَ عَمْيَاءُ مَجْهُولَةٌ، وَضَغَائِنُ مَحْمُولَةٌ، فَأَقِمِ الْحُدُودَ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. ... المزيد

 25-10-2014
 
 17473

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414359217
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :