دروس رمضانية 1438هـ
43ـ الحلم بالتحلم
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقولُ الإمامُ الغزالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الحَليمُ هوَ الذي يُشاهِدُ مَعصِيَةَ العُصاةِ، ويَرَى مُخالَفَةَ الأمرِ، ثمَّ لا يَستَفِزُّهُ غَضَبٌ، ولا يَعتَريهِ غَيظٌ، ولا يَحمِلُهُ على المسَارَعَةِ إلى الانتِقامِ معَ غَايَةِ الاقتِدارِ عَجَلَةٌ وطَيشٌ. اهـ.
ومن حِلمِ الله تعالى تأخيرُ العُقوبَةِ عن المُستَحِقِّ لها، فَيُؤَخِّرُ العُقوبَةَ عن بَعضِ االمُستَحِقِّين، ثمَّ قد يُعَذِّبُهُم، وقد يَتَجاوَزُ عنهُم، وقد يُعَجِّلُ العُقوبَةَ لِبَعضِهِم ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد﴾. ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون﴾.
ومن حِلمِ الله تعالى أنَّهُ قد يُصيبُ بَعضَ العُصاةِ بِمُصيبَةٍ لِيُطَهِّرَهُم بها، ثمَّ يَعفو عن كثيرٍ، قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير﴾.
ومن حِلمِ الله تعالى أنَّهُ لا يُعجِّلُ على العاصينَ العُقوبَةَ والانتِقامَ بعدَ المَعصِيَةِ، بل يُمهِلُهُم، ويَدعوهُم إلى التَّوبَةِ، فإن تابوا قَبِلَ تَوبَتَهُم، وبَدَّلَ سَيِّئاتِهِم حَسَناتٍ، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.
الحِلمُ بالتَّحَلُّمِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قد يَكونُ الحِلمُ سَجِيَّةً وطَبيعَةً في الإنسانِ، وقد يَكونُ بالمُجاهَدَةِ والتَّكَلُّفِ، وقد يَكونُ مُرَكَّباً مِنهُما، فَيَكونُ حليماً بالطَّبيعَةِ والفِطرَةِ، ومعَ ذلكَ يُجاهِدُ نَفسَهُ لِيَسمُوَ إلى المَقاماتِ العُليا من الحِلمِ.
إذا أحسَنتَ لمن أحسَنَ إليكَ، وحَلُمتَ عمَّن لم يُؤذِكَ فأنتَ لستَ حَليماً، ولستَ مُحسِناً، بل أنتَ مُكافِئٌ لمن أحسَنَ إليكَ بالإحسانِ، ولمن لم يُؤذِكَ بالحِلمِ.
يَقولُ ابنُ حِبَّان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والنَّاسُ بالنِّسبَةِ للمَرءِ ضُروبٌ ثلاثَةٌ: رَجُلٌ أعَزُّ منكَ، ورَجُلٌ أنتَ أعَزُّ منهُ، ورَجُلٌ ساواكَ في العِزِّ.
فالتَّجاهُلُ على من أنتَ أعَزُّ منهُ لُؤمٌ، وعلى من هوَ أعَزُّ منكَ جَنَفٌ، وعلى من هوَ مِثلَكَ هراشٌ كهراشِ الكَلبَينِ، ونِقارٌ كنِقارِ الدِّيكَينِ، ولا يَفتَرِقانِ إلا عن الخَدْشِ، والعقرِ، والهجرِ، ولا يَكادُ يُوجَدُ التَّجاهُلُ، وتركُ التَّحالُمِ إلا من سَفيهَينِ، وقد قِيلَ:
مـا تَـمَّ حِلـمٌ ولا عِـلمٌ بلا أدَبٍ *** ولا تَجاهَلَ في قَومٍ حَليمانِ
ومـا التَّجاهُلُ إلا ثَوبُ ذي دَنَسٍ *** وليسَ يَلبَسُهُ إلا سَـفيهانِ
فالواجِبُ على العاقِلِ إذا غَضِبَ واحتَدَّ أن يَذكُرَ كَثرَةَ حِلمَ الله تعالى عنهُ معَ تواتُرِ انتِهاكِهِ مَحارِمَهُ، وتَعَدِّيهِ حُرُماتِهِ. اهـ.
وقالَ محمَّدُ السَّعدِيُّ لابنِهِ عُروَةَ لمَّا وُلِّيَ اليَمَنَ: إذا غَضِبتَ فانظُر إلى السَّماءِ فَوقَكَ، وإلى الأرضِ تَحتَكَ، ثمَّ عَظِّم خالِقَهُما.
جُمِعَ له خَمسُ خِصالٍ مَحمودَةٍ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عن عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّ رَجُلاً سَبَّهُ، فَرَمَى إليه بِخَميصَةٍ كانَت عليهِ، وأمَرَ لهُ بألفِ دِرهَمٍ.
فقالَ بَعضُهُم: جُمِعَ له خَمسُ خِصالٍ مَحمودَةٍ: الحِلمُ، وإسقاطُ الأذى، وتَخليصُ الرَّجُلِ مِمَّا يُبعِدُهُ عن الله عزَّ وجلَّ، وحَملُهُ على النَّدَمِ والتَّوبَةِ، ورُجوعُهُ إلى مَدحٍ بَعدَ الذَّمِّ، اشتَرى جَميعَ ذلكَ بِشَيءٍ من الدُّنيا يَسيرٍ. من إحياء علوم الدين.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحِلمُ دَليلٌ على كَمالِ العَقلِ وسَعَةِ الصَّدرِ، وسَبَبٌ لِتَآلُفِ القُلوبِ ونَـشرِ المَحَبَّةِ بينَ النَّاسِ، ويُزيلُ البُغضَ ويَمنَعُ الحَسَدَ.
نَسألُكَ اللَّهُمَّ الحِلمَ الذي يُرضيكَ عنَّا. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأربعاء: 26/رمضان /1438هـ ، الموافق: 21/حزيران/ 2017م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد
فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد
غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد
مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد
الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد