509ـ خطبة عيد الأضحى: الأضحية من رحمة الله تعالى

509ـ خطبة عيد الأضحى: الأضحية من رحمة الله تعالى

.

509ـ خطبة عيد الأضحى: الأضحية من رحمة الله تعالى

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَا أَنْتُمْ في يَوْمِ عِيدٍ مُبَارَكٍ، في يَوْمِ عِيدِ الأَضْحَى، هَذَا اليَوْمُ العَظِيمُ الذي عَظَّمَ اللهُ تعالى أَمْرَهُ، وَرَفَعَ قَدْرَهُ، وَسَمَّاهُ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ، أَدَّى فِيهِ حُجَّاجُ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ مُعْظَمَ مَنَاسِكِهِمْ، رَمَوْا جَمْرَةَ العَقَبَةِ الكُبْرَى، وَذَبَحُوا هَدَايَاهُمْ، وَحَلَقُوا رُؤُوسَهُمْ، وَطَافُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ، وَسَعَوْا بَيْنَ الصَّفَا َالمَرْوَةِ.

هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ، يَقِفُ فِيهِ حُجَّاجُ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ على صَعِيدِ مِنَىً، بَعْدَ أَنْ وَقَفُوا المَوْقِفَ العَظِيمَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَرَفَعُوا أَكُفَّ الضَّرَاعَةِ سَائِلِينَ مَوْلَاهُمْ حَوَائِجَهُمْ، ذَرَفُوا دُمُوعَ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ، وَتَضَرَّعُوا إلى مَنْ بِيَدِهِ التَّوْفِيقُ وَالإِجَابَةُ، هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ الذي كَثُرَ فِيهِ العِتْقُ مِنَ النَّارِ، وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ.

مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى شَرَعَ الأُضْحِيَّةَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ تَمَامِ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفَضْلِهِ على الخَلْقِ جَمِيعَاً أَنَّهُ شَرَعَ الأُضْحِيَّةَ، وَحَرَّضَ الأُمَّةَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾. وَخَاصَّةً لِمَنْ حُرِمَ نِعْمَةَ الوُقُوفِ في عَرَفَاتٍ.

فَإِذَا أَفَاضَ أَهْلُ عَرَفَاتٍ مِنْ عَرَفَاتٍ وَقَدْ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُمْ، وَهُنَاكَ قُلُوبٌ تَحْتَرِقُ لَو أَنَّهَا وَقَفَتْ ذَلِكَ المَوْقِفِ، فَاللهُ تعالى جَبَرَ الخَاطِرَ، وَعَلَّمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ بِأَنَّ العَبْدَ المُضَحِّي يَغْفِرُ اللهُ تعالى لَهُ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِ أُضْحِيَّتِهِ، روى الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَوْمِي إِلَى أُضْحِيَّتِكَ فَاشْهَدِيهَا، فَإِنَّ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا يُغْفَرُ لَكِ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبُكَ».

قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ خَاصَّةً، أَوْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟

قَالَ: «بَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً».

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الأَضَاحِيُّ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّنَا سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، روى الإمام أحمد والحاكم وابن ماجه عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟

قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ».

قَالَ: قُلْنَا: فَمَا لَنَا مِنْهَا؟

قَالَ: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ».

قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالصُّوفُ؟

قَالَ: «فَكُلُّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ». حَيْثُ فَدَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا إِسْمَاعِيلَ مِنَ الذَّبْحِ بِذِبْحٍ عَظِيم.

فَالأُضْحِيَّةُ عَلَمٌ على المِلَّةِ الإِبْرَاهِيمِيَّةِ، وَالشَّرِيعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ الأُضْحِيَّةَ، وَقَدْ كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ.

«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعَاً لِمَا جِئْتُ بِهِ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنِ اسْتَجَبْتُمْ لِنِدَاءِ رَبِّكُمْ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾. وَاسْتَجَبْتُمْ لِأَمْرِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسَاً» رواه الحاكم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

اسْتَجِيبُوا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعَاً لِمَا جِئْتُ بِهِ» رواه البغوي وابنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

هَلْ تُرَانَا نَضُمُّ إلى أَضَاحِيِّنَا هَذِهِ تَضْحِيَاتِنَا بِأَهْوَائِنَا وَشَهَوَاتِنَا، لِنَجْعَلَ مِنْ هَذَا العَيدِ عِيدَيْنِ، عِيدَ نَحْرِ الأَضَاحِي، وَعِيدَ حَقْنِ الدِّمَاءِ؟ هَلْ تُرَانَا نَضُمُّ إلى أَضَاحِينَا هَذِهِ تَضْحِيَتَنَا بِعِنَادِنَا وَحِقْدِنَا وَحَسَدِنَا وَبُغْضِنَا لِبَعْضِنَا بَعْضٍ، لِنَجْعَلَ مِنْ هَذَا العَيدِ عِيدَيْنِ، عِيدَ نَحْرِ الأَضَاحِي، وَعِيدَ جَمْعِ الكَلِمَةِ على الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ تَرَكَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ الأُضْحِيَّةَ المَأْمُورَ بِهَا شَرْعَاً، وَضَحَّى بِمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَرْعَاً، لَقَدْ ضَحَّيْنَا بِدِمَائِنَا، وَلَكِنْ في سَبِيلِ أَيِّ شَيْءٍ؟ وَعَلَى يَدِ مَنْ؟ لَقَدْ ضَحَّيْنَا بِهَذَا البَلَدِ وَبِأَهْلِهِ، في سَبِيلِ أَيِّ شَيْءٍ؟ وَعَلَى يَدِ مَنْ؟

وَاللهِ لَقَدْ خُدِعْنَا بِالشِّعَارِ البَرَّاقِ شِعَارِ الرَّبِيعِ العَرَبِيِّ، الذي هُوَ في الحَقِيقَةِ الجَحِيمُ العَرَبِيُّ، خُدِعْنَا بِهَذَا الشِّعَارِ فَدَمَّرْنَا بَلَدَنَا، وَسَفَكْنَا دِمَاءَنَا، وَيَتَّمْنَا أَطْفَالَنَا، وَرَمَّلْنَا نِسَاءَنَا، وَخَرَّبنَا مُمْتَلَكَاتِنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ بِأَيْدِينَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: شَتَّانَ بَيْنَ مَنْ يُضَحَّي بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ في سَبِيلِ إِحْيَاءِ العِبَادِ وَالبِلَادِ، وَبَيْنَ مَنْ يُضَحِّي بِالعِبَادِ وَالبِلَادِ في سَبِيلِ الأَوْهَامِ وَالأَحْلَامِ التي يُزَيِّنُهَا لَهُ شَيَاطِينُ الإِنْسِ وَالجِنِّ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى عَوْدَةً صَادِقَةً لِنَبِيِّنَا سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي خَطَبَ في جُمُوعِ الحَجِيجِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارَاً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

اللَّهُمَّ صُنْ جَوَارِحَنَا الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ مِنْ جَمِيعِ الآثَامِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الاثنين: 10/ ذو الحجة /1437هـ، الموافق: 12/أيلول / 2016م

 2016-09-11
 3627
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

02-05-2024 257 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 257
26-04-2024 311 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 311
19-04-2024 488 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 488
12-04-2024 1231 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1231
09-04-2024 691 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 691
04-04-2024 823 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 823

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414592887
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :