591ـ خطبة الجمعة: «أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ بِهِمَا»

591ـ خطبة الجمعة: «أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ بِهِمَا»

 

591ـ خطبة الجمعة: «أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ بِهِمَا»

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تعالى عَلَيْنَا بِنِعَمٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَمِنْ جُمْلَتِهَا نِعْمَةُ الذُّرِّيَّةِ، وَحَذَّرَنَا مِنْ أَنْ يُفْتَتَنُ أَحَدُنَا بِهَا، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾. وَانْتَدَبَنَا لِنَأْخُذَ بِحُجَزِ أَهْلِينَا عَنِ النَّارِ، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَى الأَبَوَيْنِ أَنْ يَكُونَا حَرِيصَيْنِ عَلَى تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ، وَعَلَى تَعْلِيمِهِمْ مَا فِيهِ صَلَاحُ آخِرَتِهِمْ قَبْلَ دُنْيَاهُمْ، وَمَا فِيهِ صَلَاحُ دِينِهِمْ، وَلْيَذْكُرْ كُلٌّ مِنَ الأَبَوَيْنِ أَنَّهُمَا مُحَاسَبَانِ عَلَى التَّهَاوُنِ وَالتَّقْصِيرِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُمَا.

«أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ بِهِمَا»:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ قَصَّرْنَا كَثِيرَاً في تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ، وَخَاصَّةً الأُمَّ، قَصَّرَتْ جِدَّاً في تَرْبِيَةِ البَنَاتِ خَاصَّةً، حَتَّى أَصْبَحَتِ الكَثِيرُ مِنَ البَنَاتِ سَبَبَاً للفِتْنَةِ في دِينِ اللهِ تعالى، وَسَبَبَاً في غِوَايَةِ الشَّبَابِ وَانْحِرَافِهِمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ سُوءِ التَّرْبِيَةِ، وَعَدَمِ الانْتِبَاهِ إلى مَا كُلِّفْنَا بِهِ.

روى أبو داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ (يَعْنِي سِوَارَيْنِ غَلِيظَيْنِ) مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهَا: «أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟».

قَالَتْ: لَا.

قَالَ: «أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟».

قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا، فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ: هُمَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ.

هَل تَنَبَّهْنَا إلى هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، وَهَلْ تَنَبَّهَتِ الأُمُّ إلى ذَلِكَ؟

لَقَدْ رَتَّبَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ العُقُوبَةَ عَلَى الأُمِّ، وَلَيْسَ عَلَى البِنْتِ التي لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا القَلَمُ.

التَّرْبِيَةُ السَّلِيمَةُ الصَّحِيحَةُ وَالنَّافِعَةُ تَبْدَأُ مُنْذُ نُعُومَةِ الأَظْفَارِ، فَالأَبْنَاءُ يَنْشَؤُونَ عَلَى مَا عَوَّدَهُمْ عَلَيْهِ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ، وَمَا انْحَرَفَ مَنِ انْحَرَفَ بِشَكْلٍ عَامٍّ إِلَّا بِسَبَبِ إِهْمَالِ الأَبَوَيْنِ، وَخَاصَّةً الأُمَّ التي تَعِيشُ مَعَ أَبْنَائِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَبِيهِمْ.

«وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ المَرْأَةَ مَفْطُورَةٌ عَلَى حُبِّ الحُلِيَّ وَالزِّينَةِ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُرَبِّيَ بَنَاتِنَا عَلَى الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ في الحُلِيِّ وَالزِّينَةِ.

دَرِّبُوا بَنَاتِكُمْ عَلَى حُبِّ الزَّكَاةِ، وَحُبِّ الصَّدَقَةِ، وَعَلَى الإِنْفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، وَأَخْرِجُوا حُبَّ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ بِكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ، وَخَاصَّةً زَكَاةَ الحُلِيِّ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ للزِّينَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الأُمِّ خَاصَّةً أَنْ تَضْبِطَ زِينَةَ بَنَاتِهَا بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنْ لَا تَتْرُكَ لِابْنَتِهَا الحَبْلَ عَلَى غَارِبِهِ للتَّزَيُّنِ كَيْفَمَا تَشَاءُ، وَلَو أَدَّى الأَمْرُ إلى فِتْنَةِ المُجْتَمَعِ.

لِتَتَذَكَّرِ الأُمُّ المَسْؤُولَةُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى قَوْلَهُ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ﴾. وَلْتَنْظُرْ إلى زِينَةِ ابْنَتِهَا هَلْ هِيَ مَصْدَرُ فْتِنَةٍ؟ وَهَلْ تَسْتُرُ البْنْتُ زِينَتَهَا أَمَامَ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ؟ وَهَلْ زِينَتُهَا زِينَةٌ شَرْعِيَّةٌ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيْنَ الأُمُّ التي تُحَذِّرُ بَنَاتِهَا مِنْ ثِيَابِ أَهْلِ النَّارِ؟ وَأَيْنَ الأَبُ الذي يُحَذِّرُ بَنَاتِهِ مِنْ ذَلِكَ؟ وَأَيْنَ المُجْتَمَعُ الذي يَتَعَاوَنُ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى لَا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ؟

أَيَّتُهَا الأُمُّ المُرَبِّيَةُ المَسْؤُولَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَطْرِقِي عَلَى مَسَامِعِ بَنَاتِكِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِنَّ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا».

وَقَبْلَ أَنْ تُسْمِعِيهِنَّ هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ، انْظُرِي أَنْتِ إلى نَفْسِكِ أَوَّلَاً، وَأَنْتِ تَـسْتَحْضِرِينَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾؟

وَسَامِحِينِي يَا أُخْتَاهُ أَنْ أَقُولَ: إِذَا كَانَتْ ثِيَابُكِ ثِيَابَ أَهْلِ النَّارِ، ثِيَابَاً ضَيِّقَةً تُجَسِّدُ العَوْرَةَ، أَو شَفَّافَةً أَو قَصِيرَةً تُظْهِرُ العَوْرَةَ، فَمَاذَا تَتَوَقَّعِينَ مِنْ بَنَاتِكِ اللَّوَاتِي هُنَّ بَنَاتُ المُسْتَقْبَلِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أُصِيبَتِ الأُمَّةُ في صَمِيمِ أَخْلَاقِهَا بِسَبَبِ القَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ وَمَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، وَعَرْضِ مَا كَانَ مُخِلَّاً بِالإِيمَانِ، وَمُخِلَّاً بِالـشَّرَفِ وَالمُرُوءَةِ وَالأَخْلَاقِ، في المَحَلَّاتِ التِّجَارِيَّةِ لِبَيْعِ الأَلْبِسَةِ النِّسَائِيَّةِ، حَتَّى صَارَتْ أُسَرُنَا في مَهَبِّ الرِّيحِ، وَضَاعَتِ القِيَمُ وَالأَخْلَاقُ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى.

أَيُّهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ، كُلُّنَا مُسَافِرُونَ إلى اللهِ تعالى، فَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ القَائِلِ: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنْشُورَاً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً﴾؟

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 6/ رجب /1439هـ، الموافق: 23/ آذار / 2018م

 

 2018-03-23
 1845
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

02-05-2024 115 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 115
26-04-2024 235 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 235
19-04-2024 417 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 417
12-04-2024 1140 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1140
09-04-2024 651 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 651
04-04-2024 788 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 788

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414352165
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :