506ـ خطبة الجمعة: الهدف هو الضابط للأقوال والأفعال

506ـ خطبة الجمعة: الهدف هو الضابط للأقوال والأفعال

.

506ـ خطبة الجمعة: الهدف هو الضابط للأقوال والأفعال

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: الهَدَفُ الذي مِنْ أَجْلِه خُلِقْنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَائِمَاً وَأَبَدَاً في مُخَيِّلَتِنَا، لِأَنَّهُ هُوَ الفَصْلُ في جَمِيعِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا.

لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الهَدَفُ وَاضِحَاً لِكُلِّ مُسْلِمٍ في حَيَاتِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الضَّابِطُ لَهُ في قَوْلِهِ إِذَا قَالَ، وَفِي فِعْلِهِ إِذَا فَعَلَ، وَهُوَ الضَّابِطُ لِحُبِّهِ إِذَا أَحَبَّ، وَلِبُغْضِهِ إِذَا أَبْغَضَ، وَهُوَ الضَّابِطُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِسَكَنِهِ، وَهُوَ الضَّابِطُ لِجَمِيعِ شُؤُونِهِ الصَّغِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ.

أَمَّا إِذَا ضَاعَ الهَدَفُ، وَلَمْ يَتَّضِحْ لَهُ، فَصَاحِبُهُ ضَائِعٌ مُتَخَبِّطٌ، تَرَاهُ في هُمُومٍ وَأَحْزَانٍ، وَتَرَاهُ في شَقَاءٍ، لَا يَدْرِي لِمَنْ يُرْضِي، وَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَّجِهُ، وَلَا يَدْرِي الطَّرِيقَ الذي سَيَسْلُكُهُ، فَهُوَ مُتَخَبِّطٌ وَمُتَقَلِّبٌ وَمُتَرَدِّد وَفِي حَيْرَةٍ.

مَا هُوَ هَدَفُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؟:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ هَدَفُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَنْ نَعْرِفَ الغَايَةَ التي خُلِقْنَا مِنْ أَجْلِهَا.

إِنَّ الغَايَةَ مِنْ خَلْقِنَا، وَالهَدَفَ الذي يَجِبُ أَنْ نَصِلَ إِلَيْهِ، هُوَ التَّحَقُّقُ بِالعُبُودِيَّةِ للهِ تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ﴾. لِنَفُوزَ بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ.

لَيْسَتِ الغَايَةُ مِنْ خَلْقِنَا، وَالهَدَفُ الذي يَجِبُ أَنْ نَصِلَ إِلَيْهِ هُوَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ هَدَفُهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا  مِنْ خِلَالِ الدِّينِ الحَنِيفِ أَنْ يَصِلَ إلى مَالٍ أَو جَاهٍ أَو مُلْكٍ، فَهَذِهِ قُرَيْشٌ عَرَضَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الأُمُورَ، كَمَا قَالَ لَهُ أَبو الوَلِيدِ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالَاً جَمَعْنَا لَكَ من أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالَاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفَاً سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرَاً دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتُ تُرِيدُ بِهِ مُلْكَاً مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا. كَذَا في سِيرَةِ ابْنِ كَثِيرٍ. لَقَدْ رَفَضَ ذَلِكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ الرَّفْضِ.

وَقَالَ في مَوْطِنٍ آخَرَ لِعَمِّهِ: يَا عَمِّ، وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ. كَذَا فِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ عَرَفَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الغَايَةَ مِنْ خَلْقِهِ، وَعَرَفَ الهَدَفَ الذي يَصْبُو إِلَيْهِ، فَسَعَى إِلَيْهِ بِكُلِّ ذَرَّاتِهِ وَفِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، وَقَدْ تَجَلَّى ذَلِكَ في دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلا أُبَالِي». كَذَا في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ.

أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الذي عَرَفَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وَقَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرَاً﴾. يَسِيرُ سَيْرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَطْلُبُ دُنْيَا بِاسْمِ الإِسْلَامِ، وَلَا يَطْلُبُ مَالَاً بِاسْمِ الإِسْلَامِ، وَلَا يَطْلُبُ جَاهَاً بِاسْمِ الإِسْلَامِ، وَلَا يَطْلُبُ نِسَاءً بِاسْمِ الإِسْلَامِ، بَلْ يَطْلُبُ مَرضَاةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ هَدَفَهُ الحَقِيقِيَّ هُوَ أَنْ يَصِلَ إلى مَرْضَاةِ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى، لِيَنَالَ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَكَذَا كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ، وَهَكَذَا كَانَتْ أُمْنيَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ، روى الإمام مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ».

فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.

قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ».

قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.

قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَدْفَعِ الجَهْلَ بِالعِلْمِ بِكِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِسِيرَتِهِ العَطِرَةِ، فَالدُّنْيَا لَيْسَتْ دَارَ مَقَرٍّ لَنَا، المَقَرُّ الحَقِيقِيُّ هُوَ في الدَّارِ الآخِرَةِ ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. خُلُودٌ لِكُلٍّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ «يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادَاً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. لِأَنَّهُ كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ».

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا صَالِحِينَ مُصْلِحِينَ، لَافَاسِدِينَ مُفْسِدِينَ ظَالِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 23/ ذو القعدة /1437هـ، الموافق: 26/آب / 2016م

 2016-08-25
 2691
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

02-05-2024 119 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 119
26-04-2024 236 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 236
19-04-2024 418 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 418
12-04-2024 1141 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1141
09-04-2024 652 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 652
04-04-2024 788 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 788

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414371027
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :