بر الوالدين
31ـ عيادة الأبوين إذا مرضا
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ أَوَائِلِ بِرِّ الوَلَدِ بِوَالِدَيْهِ أَنْ يَعُودَهُمَا إِذَا مَرِضَا ـ أَو أَحَدُهُمَا ـ حَتَّى لَو كَانَا كَافِرَيْنِ، أَو فَاسِقَيْنِ، وَخَاصَّةً إِذَا ثَقُلَا، أَو قَارَبَا عَلَى الوَفَاةِ، وَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الوَفَاةِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لِذَا فَلْيُبَادِرِ الوَلَدُ بِعِيَادَةِ مَنْ يَمْرَضُ مِنْ وَالِدَيْه، وَلْيَطْلُبْ رِضَاهُ وَمُسَامَحَتَهُ، حَتَّى لَو قُدِّرَ عَلَيْهِ الوَفَاةُ، فَإِنَّهُ يَمُوتُ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُ.
عِلْمَاً بِأَنَّ عِيَادَةَ المَرْيضِ حَقٌّ للمَرِيضِ عَلَى الأَصِحَّاءِ، حَتَّى لَو كَانَ الصَّحِيحُ مِن غَيْرِ أَقْرُبَاءِ المَرِيضِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانُوا أَقْرُبَاءَ أَو مِنْ ذَوِي الأَرْحَامِ، أَو كَانُوا مِنَ الأَوْلَادِ؟ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌّ».
قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَّمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ».
وفي رِوَايَةٍ للشَّيْخَيْنِ عَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ».
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ» هَذَا للوُجُوبِ، بِدَلَالَةِ رِوَايَةِ الإمام مسلم الأُخْرَى لِهَذَا الحَدِيثِ: «خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ».
ثَمَرَاتُ عِيَادَةِ المَرِيضِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المُسْلِمُ إِذَا عَادَ مَرْيضَاً ـ أَيَّاً كَانَ ـ فَهُوَ الرَّابِحُ المُسْتَفِيدُ، روى الإمام مسلم عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ المُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ المُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ».
وفي رِوَايَةٍ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟
قَالَ: «جَنَاهَا».
وروى الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَادَ مَرِيضَاً، لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا».
وروى الإمام أحمد عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ المُسْلِمَ، مَشَى فِي خِرَافَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِنْ كَانَ غُدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ».
وَيُلَاحَظُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ المُسْلِمَ» هَذَا لَا يَعْنِي عَدَمَ جَوَازِ عِيَادَةِ غَيْرِ المُسْلِمِ، فَقَدْ عَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ غُلَامَاً يَهُودِيَّاً كَانَ يَخْدُمُهُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ غُلَامَاً لِيَهُودَ، كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَالَ: «أَسْلِمْ» فَأَسْلَمَ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ قَرِيبٍ، فَكَيْفَ لَو كَانَ قَرِيبَاً، وَهُوَ الذي لَهُ حَقُّ الإِسْلَامِ وَحَقُّ القَرَابَةِ.
عِيَادَةُ المَرِيضِ مَطْلُوبَةٌ وَإِنْ كَانَ المَرِيضُ مُشْرِكَاً:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا كَانَ الوَالِدُ فَاسِقَاً أَو كَافِرَاً وَرَجَا الوَلَدُ مِنْ زِيَارَتِهِ أَنْ يَتُوبَ الفَاسِقُ وَيُجِيبَ المُـشْرِكُ إلى الإِسْلَامِ، أَو تَقَعَ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى؛ فَتَتَعَيَّنُ.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدْرِكْ وَالِدَيْهِ، إِذْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ جَنِينَاً، وَمَاتَتْ أُمُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ بِسَنَوَاتٍ قَلَائِلَ، لَكِنَّهُ ضَرَبَ لَنَا المَثَلَ الأَعْلَى في عِيَادَةِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الوَالِدِ، وَهُوَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ.
روى الشيخان عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ».
وروى الحاكم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ مَرِضَ فَثَقُلَ، فَعَادَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، ادْعُ رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ أَنْ يُعَافِيَنِي.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشْفِ عَمِّي».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَيَلْحَقُ بِعِيَادَةِ المَرِيضِ تَعَهُّدُهُ، وَتَفَقُّدُ أَحْوَالِهِ، وَالتَّلَطُّفُ بِهِ، وَعَدَمُ الإِثْقَالِ عَلَيْهِ، لِمَا في ذَلِكَ ـ عَادَةً ـ مِنْ وُجُودِ النَّشَاطِ، وَانْتِعَاشِ قُوَّةِ المَرِيضِ.
يُضَافُ إلى ذَلِكَ أَيْضَاً، بَعْثُ الأَمَلِ في نَفْسِهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالشِّفَاءِ، وَالجَمْعُ بَيْنَ الأَجْرِ وَالعَافِيَةِ، إِذَا طُمِعَ في حَيَاتِهِ، سَوَاءٌ رَجَا حَيَاتَهُ، أَو كَانَتْ مُحْتَمَلَةً، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مِنْ فِعْلِهِ إِذَا عَادَ مَرِيضَاً، وَمِنْ قَوْلِهِ أَيْضَاً.
روى الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضَاً لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَيَقُولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللهَ العَظِيمَ، رَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ، أَنْ يَشْفِيَكَ؛ إِلَّا عُوفِيَ».
كَمَا أَنَّهُ يُلْتَمَسُ الدُّعَاءُ مِنَ المَرِيضِ المُسْلِمِ، روى ابن ماجه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ، فَمُرْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ؛ فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ المَلَائِكَةِ».
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرَضَاهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأحد: 22/ ربيع الثاني /1440هـ، الموافق: 30/ كانون الأول / 2018م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُخَاطِبَهُمَا بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخَاطِبَهُمَا بِالعِبَارَاتِ الحَادَّةِ، وَالكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، وَالغِلْظَةِ ... المزيد
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى ... المزيد
حُقُوقُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِحًا أَمِينًا لَهُمَا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَخَاصَّةً ... المزيد
هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ ... المزيد
مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا. كَيْفَ لَا يَكُونُ ... المزيد
مِنْ فَوَائِدِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ كَمَالُ الإِيمَانِ، وَحُسْنُ الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَهُوَ سَبَبٌ في بَرَكَةِ العُمُرِ، ... المزيد