الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. هُوَ جُزْءٌ من آيَةٍ، والآيَةُ بِتَمَامِهَا هِيَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
فَاللهُ تَبَارَكَ وتعالى دَعَا عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ جَمِيعَاً إلى تَوْبَةٍ بَالِغَةَ الغَايَةِ في النُّصْحِ، وَقَد وُصِفَتِ التَّوْبَةُ بِذَلِكَ على المَجَازِ، لِأَنَّ النُّصْحَ وَصْفُ التَّائِبِينَ، وَهُوَ أَنْ يَنْصَحُوا أَنْفُسَهُم بالتَّوْبَةِ، فَيَأْتُوا بِهَا على طَرِيقِهَا المَرْسُومِ، من نَدَمٍ على فِعْلِهَا، وَأَشَدِّ الغَمِّ على ارْتِكَابِهَا، عَازِمِينَ على عَدَمِ العَوْدَةِ إِلَيْهَا، مُوَطِّنِينَ أَنْفُسَهُم على ذَلِكَ، بِحَيْثُ لا يَصْرِفُهُم عَنْهَا صَارِفٌ.
فَإِذَا صَدَقُوا في تَوْبَتِهِم وَنَصَحُوا وَعَدَهُمُ اللهُ تعالى بِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ تَفَضُّلَاً، فَقَالَ تعالى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾. وَكَلِمَةُ عَسَى تُفِيدُ التَّحْقِيقَ هُنَا، وَيَكُونُونَ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُم مَشْمُولُونَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾. لِأَنَّ الجَمِيعَ آمَنُوا مَعَهُ.
قَالَ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾. فَاللهُ تعالى يَحْشُرُ اللَّاحِقِينَ بالسَّابِقِينَ فَضْلاً وَتَكَرُّمَاً، وَهَذَا مَا أكَّدَهُ سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَرَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟
فَقَالَ: «إِنَّهُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ بُلْقٌ (الذي فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ) مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».
وفي رِوَايَةٍ للإمام أحمد عَن أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ؟
قَالَ: «أَعْرِفُهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ». اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُم. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |