﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَالنِّسْيانُ لَهُ مَعْنَيَانِ:

الأَوَّلُ: الذُّهُولُ عَنْ شَيْءٍ مَعْلُومٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾. وَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمَاً﴾. وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَهَذَا المَعْنَى مُنْتَفٍ عَنِ اللهِ تعالى، لِقَوْلِهِ تعالى حِكَايَةً عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾. وَلِأَنَّ اللهَ تعالى مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ، وَمَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الكَمَالِ، وَالنِّسْيَانُ بِهَذَا المَعْنَى نَقْصٌ.

الثَّانِي: التَّرْكُ عَنْ عِلْمٍ وَقَصْدٍ وَعَمْدٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾. هَذَا النِّسْيَانُ مِنْهُمْ كَانَ عَنْ عِلْمٍ وَقَصْدٍ وَعَمْدٍ، لِذَا عَاقَبَهُمْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ.

وَهَذَا المَعْنَى مِنَ النِّسْيَانِ ثَابِتٌ للهِ تعالى، كَمَا جَاءَ في القُرْآنِ العَظِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾. يَعْنِي: تَرَكْنَاكُمْ في النَّارِ عَنْ عَلْمٍ وَقَصْدٍ وَعَمْدٍ.

وَقَالَ تعالى: ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْـمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. فَكَانَ الجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ.

وَجَاءَ في صَحِيحِ الإِمَام مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ، حِينَ يَسْأَلُ اللهُ تعالى ذَاكَ العَبْدَ: «أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟

فَيَقُولُ: لَا.

فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي».

وبناء على ذلك:

فَاللهُ تعالى لَا يَنْسَى نِسْيَانَ ذُهُولٍ عَنْ شَيْءٍ مَعْلُومٍ، إِنَّمَا يَنْسَى نِسْيَانَ تَرْكٍ عَنْ عِلْمٍ وَقَصْدٍ وَعَمْدٍ، جَزَاءً وِفَاقَاً. هذا، والله تعالى أعلم.