433ـ خطبة الجمعة: المؤمن بإيمانه سعيد

433ـ خطبة الجمعة: المؤمن بإيمانه سعيد

 

 433ـ خطبة الجمعة: المؤمن بإيمانه سعيد

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، من أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ تعالى على عَبدِهِ نِعْمَةُ الإِيمَانِ والالْتِزَامِ والسَّيْرِ على نَهْجِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، لأَنَّ هذهِ النِّعْمَةَ تُرَافِقُ آثَارُهَا العَبدَ المُؤمِنَ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا، ويَجِدُ آثَارَهَا عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوتِ، وفي قَبْرِهِ، وفي أَرضِ المَحْشَرِ، وعلى الصِّرَاطِ حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ بِبَرَكَةِ الإِيمَانِ.

ومن حُرِمَ نِعْمَةَ الإِيمَانِ عَاشَ حَيَاةَ الشَّقَاءِ والضَّنْكِ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا، وَوَجَدَ أَثَرَ هذا الحِرْمَانِ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوتِ، وفي قَبْرِهِ، وفي أَرضِ المَحْشَرِ، ويَومَ يُسْحَبُ على وَجْهِهِ ويُقْذَفُ في نَارِ جَهَنَّمَ على أُمِّ رَأْسِهِ والعِيَاذُ باللهِ تعالى.

تَطَاحُنُ النَّاسِ على نِعَمٍ لا تَنْفَعُ في الآخِرَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، النَّاسُ اليَومَ يَتَطَاحَنُونَ ويَتَنَاحَرُونَ ويَتَسَابَقُونَ في سَبِيلِ تَحْصِيلِ المَالِ، وعُلُوِّ المَنْصِبِ والجَاهِ، وجَمِيعِ النِّعَمِ المَادِّيَّةِ التي لا تَنْفَعُ في الآخِرَةِ بِدُونِ نِعْمَةِ الإِيمَانِ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾.

فَجَمِيعُ النِّعَمِ لا تَنْفَعُ في الآخِرَةِ إذا تَجَرَّدَ صَاحِبُهَا من الإِيمَانِ، بَل تَنْقَلِبُ عَلَيهِ وَبَالاً، قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾. وقَالَ تعالى مُخْبِرَاً عن قَوْلِ هؤلاءِ يَومَ القِيَامَةِ: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعَاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ باللهِ الْعَظِيمِ﴾.

المُؤمِنُ بِإِيمَانِهِ سَعِيدٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الإِنسَانُ المُؤمِنُ بِإِيمَانِهِ يَعِيشُ سَعِيدَاً ولو حُرِمَ من جَمِيعِ مَلَذَّاتِ هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، المُؤمِنُ سَعِيدٌ واللهِ ولَو سَكَنَ في كُوخٍ صَغِيرٍ، سَعِيدٌ واللهِ ولَو مَشَى على قَدَمَيْهِ، سَعِيدٌ واللهِ ولَو لَبِسَ الثِّيَابَ البَالِيَةَ، سَعِيدٌ واللهِ ولَو أَكَلَ أخشَنَ الطَّعَامِ، سَعِيدٌ واللهِ ولَو كَانَ على فِرَاشِ المَرَضِ والابْتِلاءِ في جَسَدِهِ.

المُؤمِنُ بِإِيمَانِهِ واللهِ في سَعَادَةٍ تَفُوقُ سَعَادَةَ المُلُوكِ، ورَحِمَ اللهُ تعالى مَن قَالَ: نَحنُ على لَذَّةٍ لَو عَلِمَتْهَا مُلُوكُ الأَرضِ لَجَالَدُونَا عَلَيهَا بالسُّيُوفِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، أَمَّا الإِنسَانُ بِغَيرِ إِيمَانٍ واللهِ هوَ من أَشْقَى خَلْقِ اللهِ تعالى، ولَن يَزْدَادَ إلا عَذَابَاً وشَقَاءً، لأَنَّ الإِنسَانَ بِدُونِ إِيمَانِ تَعِيسٌ ولَو سَكَنَ أَعْظَمَ البُيُوتِ وأَفْخَمَهَا، ولَو رَكِبَ أَحْدَثَ السَّيَّارَاتِ، ولَو تَزَوَّجَ أَجْمَلَ النِّسَاءِ، ولَو أَكَلَ أَشْهَى المَأْكُولاتِ، ولَو امْتَلَكَ من المَالِ كَمَا امْتَلَكَ قَارُونُ، لأَنَّهُ بهذهِ الإِمْكَانَاتِ يُرَفِّهُ عَن جَسَدِهِ بِدُونِ رُوحِهِ، والإِنسَانُ بِدُونِ سَعَادَةِ الرُّوحِ بَهِيمَةٌ من جُمْلَةِ البَهَائِمِ، ودَابَّةٌ من جُمْلَةِ الدَّوَابِّ، بَل البَهَائِمُ والدَّوَابُّ أَكْرَمُ على اللهِ مِنهُ.

«فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا»:

يَا عِبَادَ اللهِ، واللهِ لا قِيمَةَ للإِنسَانِ عِنْدَ اللهِ تعالى بِدُونِ إِيمَانٍ، ولَو أَعْطَاهُ الدُّنيَا بِأَسْرِهَا، روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».

قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللهِ؟

قَالَ: «غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ».

يَا عِبَادَ اللهِ، الدُّنيَا لا تُسَاوِي عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، فَيُعْطِيهَا رَبُّنَا لِمَن أَحَبَّ ولِمَن لَم يُحِبَّ، فَمَن أُعْطِيَ الدُّنيَا بِدُونِ إِيمَانِ فَهُوَ من أَحَطِّ المَخْلُوقَاتِ عِنْدَ اللهِ عزَّ وجلَّ.

روى الإمام أحمد عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ، فَقَالَ لَهُمْ: «ارْكَبُوهَا سَالِمَةً، وَدَعُوهَا سَالِمَةً، وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْرَاَ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ يَزْرَعُ اللهُ في قُلُوبِ المُؤمِنِينَ الأَمْنَ والطُّمَأْنِينَةَ، ويَنْزِعُ مِنهَا القَلَقَ والحَيْرَةَ والاضْطِرَابَ في الحَيَاةِ الدُّنيَا، وَوَاللهِ لَو لَمْ يَكُنْ في الإِيمَانِ إلا هذهِ النِّعْمَةَ لَكَانَتْ كَافِيَةً، فَكَيفَ إذا جَمَعَ اللهُ تعالى للمُؤمِنِ هذا الأَمْنَ والأَمَانَ في الدُّنيَا والآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾؟

اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ الإِيمَانِ والأَمْنِ والأَمَانِ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 5/رجب /1435هـ، الموافق: 24/نيسان / 2015م

 2015-04-24
 2605
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

17-05-2024 107 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 107
10-05-2024 314 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 314
02-05-2024 559 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 559
26-04-2024 513 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 513
19-04-2024 813 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 813
12-04-2024 1536 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1536

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414917524
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :