653ـ خطبة الجمعة: فليصم سمعك وبصرك

653ـ خطبة الجمعة: فليصم سمعك وبصرك

653ـ خطبة الجمعة: فليصم سمعك وبصرك

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ نَعِيشُ في سَيِّدِ الشُّهُورِ، في شَهْرِ القِيَامِ وَالطَّهُورِ، شَهْرِ الصِّيَامِ وَالسُّحُورِ، فَيَا سَعَادَةَ مَنْ عَاشَ أَيَّامَ رَمَضَانَ، وَكَانَ حَظُّهُ طَاعَةَ مَوْلَاهُ بِالقِيَامِ وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَيَا خَيْبَةَ وَخَسَارَةَ مَنْ كَانَ حَظُّهُ مُجَرَّدَ الحِرْمَانِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ القُرْآنِ، شَهْرُ الجُودِ وَالإِحْسَانِ، شَهْرُ المَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ وَقَدْ كَانَتْ حَيَاةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كُلُّهَا عِبَادَةً، لَكِنَّهُ في شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ يَزْدَادُ جِدَّاً وَحِرْصَاً وَمُوَاظَبَةً، وَيَشْحَذُ هِمَمَ أَصْحَابِهِ نَحْوَ الطَّاعَةِ، فَيُقْبِلُونَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ عَلَى تِلْكَ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

رَمَضَانُ يُعَلِّمُنَا التَّقْوَى:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ لِيُعَلِّمَنَا التَّقْوَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فَإِنِ اتَّقَيْنَا صَارَ صِيَامُنَا عَمَلَاً صَالِحَاً، وَحَقَّقَ لَنَا الحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

وَأَمَّا إِذَا صُمْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَلَمْ نَصِلْ إلى التَّقْوَى في جَمِيعِ جَوَارِحِنَا فَالمُشْكِلَةُ كَبِيرَةٌ، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الجُوعُ وَالعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ».

جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ لِيُعَلِّمَنَا التَّقْوَى، لِيُعَلِّمَنَا الإِحْسَانَ «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ سَأَلَ أُبيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنِ التَّقْوَى.

فَقَالَ لَهُ: أَمَا سَلَكْتَ طَرِيقَاً ذَا شَوْكٍ؟

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ؟

قَالَ: شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ.

قَالَ: فَذَلِكَ التَّقْوَى.

يَا عِبَادَ اللهِ: التَّقْوَى ثَمَرَةُ الصِّيَامِ الحَقِيْقِيِّ، التَّقْوَى تَجْعَلُكَ مُحْتَاطَاً في هَذَا الشَّهْرِ وَفي غَيْرِهِ مِنَ الوُقُوعِ في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، لِأَنَّ أَعْظَمَ ثِمَارِ الصِّيَامِ تَرْبِيَةُ القُلُوبِ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ تعالى، وَتَعْوِيدُهَا عَلَى الخَوْفِ وَالحَيَاءِ مِنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الإِمْسَاكَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ في رَمَضَانَ لَيْسَ هَدَفَاً في ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ لِرِقَّةِ القَلْبِ وَانْكِسَارِهِ وَخَشْيَتِهِ للهِ تعالى، وَلَو كَانَ الأَمْرُ تَرْكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَمَا أَهْوَنَ الصِّيَامَ.

روى البيهقي قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ، عَنِ الكَذِبِ، وَالمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَيْسَ الصِّيَامُ في شَهْرِ رَمَضَانَ إِمْسَاكٌ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَقَطْ، وَلَيْسَ رُكُوعَاً وَسُجُودَاً فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ صِيَامُ الجَوَارِحِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَيَا أَيُّهَا الصَّائِمُ، لَا تَعْصِ اللهَ في جَارِحَةِ السَّمْعِ، وَلَا تَعْصِ اللهَ في جَارِحَةِ العَيْنِ، وَلَا تَعْصِ اللهَ في جَارِحَةِ اللِّسَانِ، وَلَا تَعْصِ اللهَ في جَارِحَةِ القَلْبِ، وَلَا تَعْصِ اللهَ في جَارِحَةِ الفَرْجِ، وَاسْتَعِذْ بِاللهِ تعالى مِنْ شَرِّ هَذِهِ الجَوَارِحِ، وَقُلْ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي» رواه أبو داود عَنْ أَبِي أَحْمَدَ شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَخِي الصَّائِمُ، مَا الذي يَمْنَعُكَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عِنْدَمَا تَخْتَفِي عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ في نَهَارِ رَمَضَانَ؟ مَا الذي يَجْعَلُكَ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ أَنْ لَا تَدْخُلَ قَطْرَةٌ مِنَ المَاءِ إلى حَلْقِكَ أَثْنَاءَ الوُضُوءِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَعْلَمُ بِكَ أَحَدٌ لَو أَدْخَلْتَ جَرْعَةَ مَاءٍ، فَكَيْفَ بِقَطْرَةٍ؟

إِنَّ الذي مَنَعَكَ مِنْ هَذَا، مُرَاقَبَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّكَ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ تعالى يَرَاكَ، وَأَنَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكَ.

فَيَا مَنْ رَاقَبْتَ اللهَ تعالى في صِيَامِكَ، فَامْتَنَعْتَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، رَاقِبِ اللهَ في سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ وَفُؤَادِكَ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولَاً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الصِّيَامُ يُثِيرُ في النَّفْسِ مُرَاقَبَةَ اللهِ تعالى وَالخَوْفَ مِنْهُ، الصِّيَامُ يُوصِلُ إلى ثَمَرَتِهِ وَهِيَ تَقْوَى اللهِ تعالى، الصِّيَامُ يُكْسِبُ الإِنْسَانَ الحَيَاءَ مِنَ اللهِ تعالى، فَيَحْفَظُ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَيَذْكُرُ المَوْتَ وَالبِلَى.

الصِّيَامُ لَا يَدَعُكَ تَسْتَرْسِلُ في المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ لِأَنَّكَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى، وَأَهْلُ التَّقْوَى لَا يَطُولُ عَلَيْهِمْ أَمَدُ الغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِالتَّقْوَى. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 12/ رمضان /1440هـ، الموافق: 17/ أيار / 2019م

 2019-05-16
 4161
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

02-05-2024 257 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 257
26-04-2024 312 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 312
19-04-2024 491 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 491
12-04-2024 1234 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1234
09-04-2024 691 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 691
04-04-2024 823 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 823

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414597109
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :