748ـ خطبة الجمعة: يا هذا لا تغتر بحلم الله عليك
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ نَهَى رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الظُّلْمِ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ، تشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَإِعْزَازًا لِشَأْنِهَا وَتَكْرِيمًا، وَلَمْ يَزَلْ قَائِلًا عَلِيمًا: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَنْبَغِي لِاسْتِشْعَارِ حُرْمَةِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، أَنْ يَكُفَّ المَرْءُ نَفْسَهُ عَنِ البُهْتَانِ وَالظُّلْمِ، إِذِ الذَّنْبُ سُوءٌ وَشُؤْمٌ، وَهُوَ في هَذِهِ الأَشْهُرِ المُعَظَّمَةِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ حُرْمَةً، فَلْنُعَظِّمْ مَا عَظَّمَ اللهُ تعالى، لِأَنَّ تَعْظِيمَ مَا عَظَّمَ اللهُ تعالى دَلِيلٌ عَلَى تَقْوَى القُلُوبِ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.
﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾:
يَا عِبَادَ اللهِ: الحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُقَالَ، إِنَّ النَّاظِرَ في أَحْوَالِ النَّاسِ اليَوْمَ، لَيَرَى أَمْرًا عَجَبًا مِنْ ظُهُورِ الظُّلْمِ وَتَفَشِّيهِ وَتَكْشِيرِهِ عَنْ أَنْيَابِهِ؛ زَوْجٌ يَظْلِمُ زَوْجَتَهُ وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ، وَلَا يُبَالِي كُلٌّ مِنْهُمَا؛ أَبٌ يُلْقِي الظُّلْمَ عَلَى بَعْضِ أَوْلَادِهِ وَخَاصَّةً في أَمْوَالِهِ؛ وَوَلَدٌ يَظْلِمُ أُمَّهُ لِيُرْضِيَ زَوْجَتَهُ؛ وَأُمُّ الزَّوْجِ تَظْلِمُ زَوْجَةَ ابْنِهَا شِفَاءً لِغَلِيلِهَا؛ وَتَاجِرٌ يَظْلِمُ مَنِ اسْتَأْمَنَهُ عَلَى مَالِهِ؛ وَكَبِيرٌ يَظْلِمُ مَنْ هُوَ دُونَهُ؛ وَقَوِيٌّ يَظْلِمُ الضَّعِيفَ؛ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءَ الكَثِيرَ.
فَإِلَى كُلِّ ظَالِمٍ أَتَوَجَّهُ لِأَقُولَ لَهُ:
لَا تَظْلِمَنَّ إذَا مَا كُنْت مُقْتَدِرَاً *** فَــالظُّلْمُ آخِرُهُ يَأْتِيك بِالنَّدَمِ
تَنَـامُ عَـيْـنَاكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ *** يَدْعُو عَلَيْك وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ
لا شَكَّ دَعْوَةُ مَظْلُومٍ تَحِلُّ بِهَا *** دَارَ الهَوَانِ وَدَارَ الذُّلِّ والنِّقَمِ
روى الإمام مسلم عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ البَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ» فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ.
قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ».
قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ».
قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا.
وفي رِوَايَةٍ قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ.
فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ»، أَوْ «لَمَسَّتْكَ النَّارُ».
ويروى كَمَا جَاءَ في الزَّواجِر عَنِ اقْتِرَافِ الكَبَائِرِ: أَنَّ يَحْيَى بْنَ خَالِدِ بْنِ بَرمَكَ لَمَّا حُبِسَ وَوَلَدَهُ، قَالَ لَهُ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ، بَعْدَ العِزِّ صِرْنَا فِي القَيْدِ وَالحَبْسِ.
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ غَفَلْنَا عَنْهَا، وَلَمْ يَغْفُلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا.
يَا هَذَا: لَا تَغْتَرَّ بِحِلْمِ اللهِ تعالى عَلَيْكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾.
وَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
وَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾.
وَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾.
يَا هَذَا: اعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَةَ مِنَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَلَو كَانَ عَبْدًا كَافِرًا فَاسِقًا فَاجِرًا، وَلَنْ تَضِيعَ دَعْوَتُهُ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَإِنَّ اللهَ نَاصِرُهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَمُؤَيِّدُهُ عَلَى مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ، فَاللهُ تعالى يَرْفَعُ دَعْوَةَ المَظْلُومِ إِلَيْهِ فَوْقَ الغَمَامِ، وَيَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: «وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا هَذَا، لَقَدْ حَفِظْنَا جَمِيعًا وَنَحْنُ في صِغَرِنَا: إِذَا دَعَتْكَ قُدْرَتُكَ عَلَى ظُلْمِ النَّاسِ، فَتَذَكَّرْ قُدْرَة اللهِ عَلَيْكَ، وَاعْتَبِرْ مِنَ الظَّلَمَةِ الذينَ سَبَقُوكَ ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.
يَا هَذَا، أَيَّامُ بُؤْسِ المَظْلُومِ سَتَمْضِي، وَأَيَّامُ نَعِيمِكَ سَتَمْضِي، وَالكُلُّ لَهُ نِهَايَةٌ، وَلَا يَبْقَى للإِنْسَانِ إِلَّا مَا قَدَّمَهُ وَسَيَذْكُرُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالمَوْعِدُ يَوْمَ القِيَامَةِ ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَا تَجْعَل للظَّالِمِينَ عَلَيْنَا سَبِيلًا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 7/ رجب /1442هـ، الموافق: 19/شباط / 2021م
ارسل إلى صديق |
فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد
الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد
لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد