810ـ خطبة الجمعة: لن تجدوني جبانًا ولا بخيلًا

810ـ خطبة الجمعة: لن تجدوني جبانًا ولا بخيلًا

810ـ خطبة الجمعة: لن تجدوني جبانًا ولا بخيلًا

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ فَرِيدٌ في حَيَاةِ المُسْلِمِ، وَفي حَيَاةِ الأُسْرَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَفي حَيَاةِ الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ؛ فَهُوَ شَهْرُ التَّعَاطُفِ، يُشْعِرُ الصَّائِمَ بِآلَامِ الآخَرِينَ، وَبِجُوعِ الجَائِعِينَ، وَحِرْمَانِ المَحْرُومِينَ، حِينَ يَذُوقُ مَرَارَةَ الجُوعِ، وَشِدَّةَ العَطَشِ.

في شَهْرِ رَمَضَانَ يَعْطِفُ المُسْلِمُ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَتَنْبَسِطُ إِلَيْهِمْ يَدُهُ، وَيَسِيرُ خَلْفَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ.

لَنْ تَجِدُونِي جَبَانًا وَلَا بَخِيلًا:

يَا مَعْشَرَ الصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، لَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الفَقْرَ، يُعْطِي عَطَاءً يَقُولُ آخِذُهُ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ. رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ.

رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ أَبَاهُ، أَخْبَرَهُ بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ عَلِقَهُ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَوَقَفَ، فَقَالَ: «رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، أَتَخْشَوْنَ عَلَيَّ الْبُخْلَ؟ فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا».

وَقَالَ للأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ حِينَ أَتَوْهُ وَتَوَافَدُوا عَلَيْهِ في صَلَاةِ الفَجْرِ: «أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟».

فَقَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَفي رِوَايَةٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ».

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ بَعِيرٍ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ قَدْرَ هَذِهِ إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ».

نَعَمْ، لَقَدْ أَدَّبَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا الأَدَبِ، وَحَضَّهُ عَلَى هَذَا العَطَاءِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾.

وَقَدْ تَأَدَّبَ بِهَذَا الأَدَبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا أَيُّهَا الصَّائِمُونَ وَالصَّائِمَاتُ، يَا أَيَّتُهَا النِّسْوَةُ اللَّوَاتِي تَمْتَلِكْنَ الذَّهَبَ، ثُمَّ تَسْأَلْنَ: هَلْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ مَا نَحْنُ قَائِلُونَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالأُمَّةُ جَائِعَةٌ، وَالأُمَّةُ بِحَاجَةٍ؟ هَلْ تَفْرَحُ يَا أَيُّهَا التَّاجِرُ، وَيَا أَيَّتُهَا الغَنِيَّةُ، بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ فَقَطْ؟

أُذَكِّرُ الأُمَّةَ بِقَضِّهَا وَقَضِيضِهَا بِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾.

فَلَا تَبْخَلُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَوَاللهِ أَنْتُمْ بِحَاجَةٍ إلى أَجْرِ الصَّدَقَةِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَةِ الفَقِيرِ إلى صَدَقَاتِكُمْ.

أَيُّهَا التُّجَّارُ، أَنْتُمْ في اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ، يَا صَاحِبَةَ الحُلِيِّ، أَنْتِ في اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ، فَاللهُ يَدْعُونَا جَمِيعًا بِقَوْلِهِ: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾. فَلَا تُعَرِّضُوا أَنْفُسَكُمْ للاسْتِبْدَالِ، وَقُولُوا: اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنَا وَلَا تَسْتَبْدِلْنَا.

قُومُوا للعَمَلِ لِآخِرَتِكُمْ، وَابْحَثُوا بِذَاتِكُمْ عَنِ الفُقَرَاءِ، وَانْظُرُوا إلى أَحْوَالِهِمْ، وَلَا تَفْرَحُوا بِالعَطَاءِ للشُّيُوخِ وَلَا للجَمْعِيَّاتِ، وَلَا تُسَرُّوا بِمَدِيحِهِمْ لَكُمْ، وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ مَنْ رَأَى لَيْسَ كَمَنْ سَمِعَ، انْظُرُوا بِأَعْيُنِكُمْ أَحْوَالَ إِخْوَانِكُمْ، وَبَعْضُ النَّاسِ كَادَ أَنْ يُفْتَنَ في دِينِهِ.

أَسْأَلُكَ يَا رَبِّ أَنْ تَسْتَعْمِلَنَا وَلَا تَسْتَبْدِلَنَا، فَلَيْسَ لَنَا سِوَاكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 14/رمضان /1443هـ، الموافق: 15/ نيسان / 2022م

 2022-04-14
 1513
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

02-05-2024 195 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 195
26-04-2024 273 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 273
19-04-2024 453 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 453
12-04-2024 1175 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1175
09-04-2024 671 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 671
04-04-2024 810 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 810

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414465508
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :