793ـ خطبة الجمعة: إن لزوجك عليك حقًّا
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَنْ يَنْعَمَ بِالسَّعَادَةِ مَنْ عَاشَ خَارِجَ دَائِرَةِ الإِسْلَامِ، وَإِنْ بَدَا مُتَظَاهِرًا بِبَعْضِ شَعَائِرِهِ، لَنْ يَعِيشَ الإِنْسَانُ عَيْشَ السُّعَدَاءِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ وَاجِبَهُ أَوَّلًا قَبْلَ مَعْرِفَةِ حَقِّهِ.
لَقَدْ شَكَا بَعْضُ الرِّجَالِ مِنَ انْحِرَافِ نِسَائِهِمْ، وَمِنْ تَعَلُّقِهِنَّ بِالأَفْلَامِ الإِبَاحِيَّةِ وَالصُّوَرِ الخَلَاعِيَّةِ، وَمِنْ عَلَاقَاتِهِنَّ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ رِجَالٍ أَجَانِبَ، لَقَدْ شَكَا بَعْضُهُمْ ذَلِكَ حَتَّى وَصَلَ الأَمْرُ إلى الطَّلَاقِ، وَتَيْتِيمِ الأَطْفَالِ وَضَيَاعِهِمْ رَغْمَ حَيَاةِ الأَبَوَيْنِ.
«إِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»:
يَا عِبَادَ اللهِ: الزَّوْجَةُ لَهَا حُقُوقٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُفَكِّرَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُفَكِّرَ في الحَقِّ الذي لَهُ، وَإِنِّي لَنْ أَتَكَلَّمَ اليَوْمَ عَنِ الحُقُوقِ المَادِّيَّةِ التي رَتَّبَهَا الإِسْلَامُ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ أَتَكَلَّمُ عَنِ الحُقُوقِ الأَدَبِيَّةِ التي يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مُرَاعَاتُهَا، وَعَلَى رَأْسِ هَذِهِ الأُمُورِ أَنْ يُعَاشِرَهَا بِالمَعْرُوفِ، وَأَنْ يُعْطِيَهَا حَقَّهَا الأَدَبِيَّ، وَأَنْ لَا يَتَعَمَّدَ هَجْرَهَا، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ حَقِّهَا بِمِقْدَارِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ.
روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ اللهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟».
فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».
وروى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ خُوَيْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ وَكَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، قَالَتْ: فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَذَاذَةَ هَيْئَتِهَا، فَقَالَ لِي: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَبَذَّ هَيْئَةَ خُوَيْلَةَ؟».
قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا، يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، فَهِيَ كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، فَتَرَكَتْ نَفْسَهَا وَأَضَاعَتْهَا.
قَالَتْ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ، فَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ، أَرَغْبَةً عَنْ سُنَّتِي؟».
قَالَ: فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ.
قَالَ: «فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَاتَّقِ اللهَ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ».
يَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَكْثَرَ الرِّجَالَ الذينَ هَضَمُوا حُقُوقَ زَوْجَاتِهِمْ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُنَّ، وَأَهْمَلُوهُنَّ كَأَنَّهُنَّ لَا شَيْءَ، هَذَا في السَّفَرِ وَتَرَكَ الزَّوْجَةَ، وَهَذَا في السَّهَرِ وَأَهْمَلَ الزَّوْجَةَ، إِلَّا إِذَا شَعَرَ بِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا.
لَا يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا لَيْسَ مِنْ دِينِنَا في شَيْءٍ، اسْمَعُوا إلى هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، قَالَ ـ تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ: «يَا عَائِشَةُ، ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي».
قُلْتُ: وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ.
قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ.
فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟
قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآيات.
لَاحِظُوا يَا عِبَادَ اللهِ كَيْفَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُ مِنْ زَوْجَتِهِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنْ تَتْرُكَ لَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِيَتَعَبَّدَ اللهَ تعالى فِيهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَصِّصُ جُزْءًا مُهِمًّا مِنْ وَقْتِهِ لِمُلَاطَفَةِ زَوْجَاتِهِ وَمُؤَانَسَتِهِنَّ، مَعَ كَثْرَةِ أَشْغَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَمْلِهِ هَمَّ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى.
يَا عِبَادَ اللهِ: إِعْفَافُ الزَّوْجَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا بِالقَدْرِ الذي يَحْفَظُ عِفَّةَ المَرْأَةِ وَيَصُونُهَا، لِأَنَّ تَحْصِينَهَا وَاجِبٌ شَرْعًا، وَإِهْمَالَهَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَلَيْسَ مَقْبًولًا أَبَدًا، حَتَّى وَلَو شَغَلَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِالعِبَادَةِ للهِ تعالى، فَكَيْفَ بِغَيْرِ العِبَادَةِ؟!
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِمَنْ شَكَا مِنْ زَوْجَتِهِ النَّظَرَ إلى الأَفْلَامِ الإِبَاحِيَّةِ وَالصُّوَرِ الخَلِيعَةِ، وَسَلَكَتْ طَرِيقَ الانْحِرَافِ: لَعَلَّكَ كُنْتَ السَّبَبَ، بِسَبَبِ سَاعَاتِ العَمَلِ الطَّوِيلَةِ، بِسَبَبِ السَّهَرِ الكَثِيرِ وَالمُتَكَرِّرِ، بِسَبَبِ السَّفَرِ، أَو بِادِّعَائِكَ أَنَّكَ صَوَّامٌ قَوَّامٌ.
لَا يَا عَبْدَ اللهِ، تَذَكَّرْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».
وَأَهَمُّ هَذِهِ الحُقُوقِ إِعْفَافُهَا عَنِ الحَرَامِ، فَأَعْطِهَا مِنْ وَقْتِكَ، وَمِنَ اهْتِمَامِكَ، وَلَا يَشْغَلَنَّكَ حَقٌّ عَنْ حَقٍّ، فَأَنْتَ المَسْؤُولُ عَنْهَا، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
وَقَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ» رواه الإمام مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
اللَّهُمَّ وفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 12/ جمادى الأولى /1443هـ، الموافق: 17/ كانون الأول / 2021م
ارسل إلى صديق |
الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد
لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد