842ـ خطبة الجمعة: اعملوا ما شئتم
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ النَّاسِ يَعْمَلُونَ، فَالمُؤْمِنُ يَعْمَلُ، وَالكَافِرُ يَعْمَلُ، العَادِلُ يَعْمَلُ، وَالظَّالِمُ يَعْمَلُ، المُخْلِصُ يَعْمَلُ، وَالمُنَافِقُ يَعْمَلُ، الغَنِيُّ يَعْمَلُ، وَالفَقِيرُ يَعْمَلُ، وَلَكِنْ شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَامِلٍ وَعَامِلٍ في مَوْضُوعِ الجَزَاءِ، وَاحِدٌ إلى الجَنَّةِ، وَالآخَرُ إلى النَّارِ، وَاحِدٌ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾. وَوَاحِدٌ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾. وَاحِدٌ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ﴾. وَوَاحِدٌ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾.
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ:
يَا عِبَادَ اللهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، العَمَلُ لَكُمْ، وَلَكُمُ الاخْتِيَارُ، لَكُمْ مَا تَشَاؤُونَ، لَا إِكْرَاهَ في الدِّينِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، لَا أَحَدَ يُكْرَهُ، أَنْتُمْ في مَحْضِ الحُرِّيَّةِ، وَكَامِلِ الإِرَادَةِ، وَاسْمَعُوا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ الذي رَوَاهُ الحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ مَرَّةً: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ».
ثُمَّ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ».
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُصَلِّ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ، مَنْ شَاءَ فَلْيَتَصَدَّقْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ، مَنْ شَاءَ فَلْيَظْلِمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ، مَنْ شَاءَ فَلْيَأْكُلْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ، مَنْ شَاءَ فَلْيَكُنْ صَالِحًا، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكُنْ فَاسِقًا، مَنْ شَاءَ فَلْيَكُنْ طَائِعًا، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكُنْ عَاصِيًا، مَنْ شَاءَ فَلْيَكُنْ مُخْلِصًا، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكُنْ مُنَافِقًا، الكُلُّ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ تعالى، الكُلُّ في قَبْضَةِ اللهِ تعالى، فَهُوَ بِعَمَلِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ، وَكُلُّ الأَعْمَالِ في كِتَابٍ، لَا يُنْسَى، وَلَا يُمْحَى، حَتَّى يَأْتِيَ المَوْعِدُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا المَوْعِدُ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، لِيَمْضِ أَصْحَابُ الغُرُورِ في غُرُورِهِمْ، وَأَهْلُ النِّفَاقِ في نِفَاقِهِمْ، وَأَكَلَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ في أَكْلِهِمْ، وَأَهْلُ الظُّلْمِ في ظُلْمِهِمْ، وَأَهْلُ البَغْيِ في بَغْيِهِمْ، لِيَفْرَحُوا وَلْيَضْحَكُوا، وَلْيَسْخَرُوا، فَسَيَأْتِي يَوْمٌ يَنْكَشِفُ عَنْهُمُ الوَهْمُ، وَتَزُولُ الغِشَاوَةُ، وَيَسْتَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الأَمْرَ جِدٌّ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، وَأَنَّ الحَسْرَةَ كَبِيرَةٌ وَعَظِيمَةٌ، وَلَكِنَّهَا لَا تَنْفَعُ.
اسْمَعُوا يَا عِبَادَ اللهِ قَوْلَ اللهِ تعالى في حَقِّ هَؤُلَاءِ الغَافِلِينَ: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾. بِمُجَرَّدِ أَنْ يَأْتِيَهُ المَوْتُ يَصْحُو مِنْ غَفْلَتِهِ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصُعِقَ».
رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، أَو حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ.
وَأَمَّا يَوْمُ القِيَامَةِ، فَالعَامِلُونَ إلى قِسْمَيْنِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ ـ زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَاتَّفَقَا فِي بَاقِي الْحَدِيثِ ـ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ.
قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ.
قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ».
قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: لَا يَلِيقُ بِالعَبْدِ المُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ غَافِلًا، فَلَقَدْ تَرَكَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا بْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ.
وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا بْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَيْنَ اللَّذَّاتُ المُحَرَّمَةُ؟ أَيْنَ الأَمْوَالُ المُحَرَّمَةُ؟ أَيْنَ النِّفَاقُ؟ أَيْنَ الكَذِبُ؟ أَيْنَ أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ أَيْنَ وَأَيْنَ وَأَيْنَ؟ كُلُّهَا ذَهَبَتْ مَعَ أَصْحَابِهَا في الجَحِيمِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: عَلَيْنَا أَنْ لَا نُخَادِعَ أَنْفُسَنَا ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 16/ربيع الآخر /1444هـ، الموافق: 11/ تشرين الثاني / 2022م
ارسل إلى صديق |
الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد
لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد