859ـ خطبة الجمعة: حقيقة يجب الإكثار من ذكرها

859ـ خطبة الجمعة: حقيقة يجب الإكثار من ذكرها

859ـ خطبة الجمعة: حقيقة يجب الإكثار من ذكرها

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: حَقِيقَةٌ قَاسِيَةٌ لَا مَحِيدَ عَنْهَا، وَقَضِيَّةٌ رَهِيبَةٌ مُسَلَّمٌ بِهَا لَا مَفَرَّ مِنْهَا، حَقِيقَةٌ تُوَاجِهُ النَّاسَ جَمِيعًا، وَلَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ رَدَّهَا مَهْمَا كَانَ، حَقِيقَةٌ تَتَكَرَّرُ في كُلِّ لَحْظَةٍ، نُعَايِشُهَا وَنَرَاهَا بِأُمِّ أَعْيُنِنَا، هَذِهِ الحَقِيقَةُ يُوَاجِهُهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ وَالأَبْنَاءُ، يُوَاجِهُهَا الأَغْنِيَاءُ وَالفُقَرَاءُ، وَالأَقْوِيَاءُ وَالضُّعَفَاءُ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَالطَّائِعُونَ وَالعَاصُونَ، وَالمُؤْمِنُونَ وَالكَافِرُونَ، الشُّجَعَاءُ وَالجُبَنَاءُ.

هَذِهِ الحَقِيقَةُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرُدَّهَا، أَو يَجِدَ لَهَا حِيلَةً، وَلَا يُمْكِنُ تَجَاهُلُهَا، هَذِهِ الحَقِيقَةُ هِيَ المَوْتُ وَالنِّهَايَةُ، وَإِنْهَاءُ التَّكْلِيفِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. قَالَ تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.

حَقِيقَةٌ يَجِبُ الإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِهَا:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الحَقِيقَةُ يَجِبُ الإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللهَ، اذْكُرُوا اللهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَقِرَّ هَذِهِ الحَقِيقَةُ في نُفُوسِنَا، وَأَنْ نَشْعُرَ بِهَا حَتَّى يَكُونَ لَهَا الأَثَرُ العَمَلِيُّ في حَيَاتِنَا، بِالإِقْبَالِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَبِتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُحَرَّمَاتِ، وَبِالمُبَادَرَةِ إلى التَّوْبَةِ وَتَرْكِ التَّسْوِيفِ، وَاسْمَعُوا إلى قَوْلِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾. الدُّنْيَا لَيْسَتْ دَارَ قَرَارٍ، الآخِرَةُ هِيَ دَارُ القَرَارِ، إِمَّا إلى جَنَّةٍ وَإِمَّا إلى نَارٍ.

هُمَا مَحَلَّانِ مَا للمَرْءِ غَيْرُهُمَا   ***   فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَيَّ الدَّارِ تَخْتَارُ

إِمَّا إلى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، وَإِمَّا إلى نَارٍ حَامِيَةٍ؛ أَجَارَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لَا تَكُنْ مُتَمَنِّيًا، بَلْ كُنْ رَاجِيًا، لَا تَكُنْ مُقَلِّدًا لِمَنْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ إِذْ قَالُوا: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.

لَا تَكُنْ مِمَّنْ قَالَ: مَا أَكْثَرَ أَهْلَ الكُفْرِ، وَأَهْلَ الفُسُوقِ، وَأَهْلَ الفُجُورِ، نَحْنُ قِلَّةٌ سَنَدْخُلُ الجَنَّةَ، أَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ نَكُونَ مِنَ القِلَّةِ التي سَتَدْخُلُ الجَنَّةَ؛ وَلَكِنْ لِنَتَسَاءَلْ هَلْ أَفْعَالُنَا أَفْعَالُ القِلَّةِ الذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.

أَمْ أَفْعَالُنَا أَفْعَالُ الكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ الفِسْقِ وَالفُجُورِ وَالضَّلَالِ، إِذَا كَانَتْ أَفْعَالُنَا كَأَفْعَالِهِمْ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى، فَإِذًا هَؤُلَاءِ يَتَمَنَّوْنَ كَمَا يَتَمَنَّى أُولَئِكَ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَطَلَّ عَلَيْنَا، وَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ وَيَنْزِلُ عَلَيْنَا ضَيْفًا إِنْ أَحْيَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَهَلْ نَتَذَكَّرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾؟

هَلْ نَتَذَكَّرُ فِيهِ قَوْلَ اللهِ تعالى في صِفَةِ المُحْسِنِينَ: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾؟

هَلْ نَتَذَكَّرُ فِيهِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾؟

هَلْ نَتَذَكَّرُ فِيهِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؟

هَلْ نَتَذَكَّرُ فِيهِ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ»؟ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 25/ شعبان /1444هـ، الموافق: 17/ آذار / 2023م

 2023-03-17
 2116
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

17-05-2024 93 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 93
10-05-2024 310 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 310
02-05-2024 558 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 558
26-04-2024 509 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 509
19-04-2024 810 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 810
12-04-2024 1532 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1532

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414912960
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :