822ـ خطبة الجمعة: المدار على القلب
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَسْبَابِ حَيَاةِ القُلُوبِ وَصِحَّتِهَا الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَلَا تَكُونُ القُلُوبُ صَالِحَةً إِلَّا بِصَلَاحِ العَمَلِ، وَلَا يَكُونُ صَلَاحُ العَمَلِ إِلَّا بِصَلَاحِ النِّيَّةِ.
فَمَا مِنْ عَمَلٍ إِلَّا وَلَهُ أَثَرٌ في القَلْبِ مِنْ نَفْعٍ أَو ضُرٍّ، وَمَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَانَ عَادِلًا مَعَ قَلْبِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.
وَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إِنَّ للحَسَنَةِ نُورًا في الوَجْهِ، وَنُورًا في القَلْبِ، وَسَعَةً في الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً في الخَلْقِ، وَإِنَّ للسَّيِّئَةِ سَوَادَاً في الوَجْهِ، وَظُلْمَةً في القَلْبِ، وَضِيقًا في الرِّزْقِ، وَبُغْضًا في قُلُوبِ الخَلْقِ.
وَفي أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ يُكْثِرُ العِبَادُ مِنْ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالصَّدَقَاتِ، وَلَكِنْ قَدْ تَجِدُ بَعْضَهُمْ قَدْ أَهْمَلَ سَلَامَةَ قَلْبِهِ، مَعَ أَنَّ المُعَوَّلَ عَلَيْهِ سَلَامَةُ القَلْبِ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
فَيَا مَنِ اهْتَمَّ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ في أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، لِيَكُنْ جُلُّ اهْتِمَامِكَ سَلَامَةَ قَلْبِكَ مِنَ الحِقْدِ وَالضَّغِينَةِ وَالبُغْضِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَنْظُرُ إلى قَلْبِكَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».
المَدَارُ عَلَى القَلْبِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: القَلْبُ سَيِّدٌ عَلَى الأَعْضَاءِ، وَعَلَيْهِ المَدَارُ، يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ المَلِكِ مَعَ جُنُودِهِ، جَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَحْتَ سُلْطَانِ القَلْبِ وَأَثَرِهِ، وَمِنْهُ تَكْتَسِبُ الاسْتِقَامَةَ أَو الانْحِرَافَ، وَصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
فَهُوَ مَلِكُهَا، وَهِيَ المُنَفِّذَةُ لِأَوَامِرِهِ.
وَلَمَّا عَلِمَ عَدُوُّ اللهِ إِبْلِيسُ أَنَّ المَدَارَ عَلَى القَلْبِ، أَجْلَبَ عَلَيْهِ بِالوَسْوَاسِ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ بِجَمِيعِ الشَّهَوَاتِ، وَزَيَّنَ لَهُ مَا يَصُدُّهُ عَنْ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ، وَمَا يُحْبِطُ بِهِ عَمَلَهُ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.
وَصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ اللهَ خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ غَفَلَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ عَنْ القَلْبِ، مَعَ الاهْتِمَامِ الزَّائِدِ بِالأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ؛ وَقَبُولُ الأَعْمَالِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى سَلَامَةِ القَلْبِ، الذي بِهِ يَخْلُصُ الإِنْسَانُ إلى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى العَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ صَدْرَهُ سَلِيمًا مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ، نَقِيًّا مِنَ الغِلِّ وَالحَسَدِ، صَافِيًا مِنَ الغَدْرِ وَالخِيَانَةِ؛ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى العَبْدِ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِدَفْعِ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ، وَأَنْ يَلْتَزِمَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
وَخَاصَّةً مَعَ الأَرْحَامِ وَالأَقَارِبِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ.
فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ».
وَمَعْنَاهُ: كَأَنَّمَا تُطْعِمُهُمُ الرَّمَادَ الحَارَّ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الأَلَمِ بِمَا يَلْحَقُ آكِلَ الرَّمَادِ الْحَارِّ مِنَ الأَلَمِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى هَذَا المُحْسِنِ، بَلْ يَنَالُهُمُ الإِثْمُ العَظِيمُ فِي قَطِيعَتِهِ وَإِدْخَالِهِمُ الأَذَى عَلَيْهِ، وَالظَّهِيرُ: المُعِينُ.
وَمَا أَجْمَلَ قَوْلَ القَائِلِ:
إِذَا أَدْمَـتْ قَوَارِصُكُمْ فُؤَادِي *** صَبَرْتُ عَلَى أَذَاكُمْ وَانْطَوَيْــتُ
وَجِئْتُ إِلَـيْـكُمُ طَلْقَ الـمُحَيَّا *** كَـأَنِّي مَـا سَـمِـعْـتُ وَلَا رَأَيْتُ
كَمْ يَعْلُو الإِنْسَانُ بِالأَخْلَاقِ وَيَسْمُو؟! كَمْ يَعْلُو الإِنْسَانُ وَيَسْمُو بِصَفَاءِ القَلْبِ وَالسَّرِيرَةِ؟!
وَكُلُّنَا يَذْكُرُ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا كَانَ جَالِسًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
وَبَعْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَثِيرَ عِبَادَةٍ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ: غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ.
بِسَلَامَةِ القَلْبِ رُفِعَتْ أَقْدَارُ الصَّحَابَةِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ يَقُولُ سُفْيَانُ بْنُ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قُلْتُ لِأَبِي بَشِيرٍ ـ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَعْمَالِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا؟
قَالَ: «كَانُوا يَعْمَلُونَ يَسِيرًا وَيُؤْجَرُونَ كَثِيرًا».
قُلْتُ: وَلِمَ ذَاكَ؟
قَالَ: «لِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ».
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِحُسْنِ السِّيرَةِ وَبِصَفَاءِ السَّرِيرَةِ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 2/ذو الحجة /1443هـ، الموافق: 1/ تموز / 2022م
ارسل إلى صديق |
الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد
لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد