169ـ هكذا كان أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحِرْصُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالأَوْلَادِ مَطْلَبٌ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ الأَبَوَيْنِ مَسْؤُولَانِ عَنِ الذُّرِّيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
وَمِنْ صُوَرِ الحِرْصِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ تَزْوِيجُ البَنَاتِ مِنْ صَاحِبِ الدِّينِ وَالخُلُقِ، وَلَو كَانَ فَقِيراً، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَهَكَذَا تَرَبَّى أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا يُزَوِّجُونَ عَلَى الدِّينِ وَالخُلُقِ دُونَ النَّظَرِ إلى المَالِ وَالجَاهِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، بَلْ كَانُوا إِذَا تَقَدَّمَ صَاحِبُ مَالٍ وَجَاهٍ مِنْ زَوَاجِ بَنَاتِهِمْ رَدْوهُ خَوْفاً مِنَ الفِتْنَةِ في المَالِ وَالظُّهُورِ.
زَوَاجُ السَّيِّدَةِ الدَرْدَاءِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ عُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكٍ الخَزْرَجِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ المُسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْ خِطْبَتِهَا صَاحِبُ مَالٍ وَسِيَادَةٍ وَرِيَادَةٍ.
أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ في حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: خَطَبَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ ابْنَتَهُ الدَّرْدَاءَ فَرَدَّهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ يَزِيدَ: أَصْلَحَكَ اللهُ، تَأْذَنُ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَهَا؟
قَالَ: أَغْرِبْ، وَيْلَكَ.
قَالَ: فَائْذَنْ لِي أَصْلَحَكَ اللهُ.
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَخَطَبَهَا، فَأَنْكَحَهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ الرَّجُلَ.
قَالَ: فَسَارَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ: أَنَّ يَزِيدَ خَطَبَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَرَدَّهُ، وَخَطَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْكَحَهُ.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنِّي نَظَرْتُ لِلدَّرْدَاءِ، مَا ظَنُّكُمْ بِالدَّرْدَاءِ إِذَا قَامَتْ عَلَى رَأْسِهَا الْخِصْيَانُ، وَنَظَرَتْ فِي بُيُوتٍ يُلْتَمَعُ فِيهَا بَصَرُهَا، أَيْنَ دِينُهَا مِنْهَا يَوْمَئِذٍ؟
نَعَمْ لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَرِيصاً عَلَى دِينِ ابْنَتِهِ، وَهُوَ في رَدِّ يَزِيدَ بْنِ سَيِّدِنَا مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا هَرَبَ مِنَ السَّعَادَةِ، بَلْ هَرَبَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ السَّعَادَةَ الحَقَّةَ عِنْدَهُ هِيَ أَنْ تَمْلِكَ الدُّنْيَا، لَا أَنْ تَمْتَلِكَكَ الدُّنْيَا.
فَسَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ الْخَيْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ، وَلَكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَعْظُمَ حِلْمُكَ، وَأَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ، وَأَنْ تُبَارِيَ النَّاسَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ حَمِدْتَ اللهَ، وَإِنْ أَسَأْتَ اسْتَغْفَرْتَ اللهَ. رواه ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
هَكَذَا كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَكَذَا كَانَ سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَقَدْ كَانَ حَرِيصاً عَلَى العِلْمِ، وَكَانَ حَرِيصاً عَلَى مُبَارَاةِ الآخَرِينَ في عِبَادَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَعْلِ الآخِرَةِ هَمَّهُ.
عِنْدَمَا كَانَ سَيِّدُنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في دِمَشْقَ، قَدِمَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِلَادَ الشَّامِ مُتَفَقِّداً أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ، فَزَارَ أَبَا الدَّرْدَاءِ في مَنْزِلِهِ لَيْلاً.
فَدَفَعَ الْبَابَ، فَإِذَا لَيْسَ غَلَقٌ، فَدَخَل فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَا ضَوْءَ فِيهِ.
فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ حِسَّهُ قَامَ إِلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَجْلَسَهُ، وَأَخَذَ الرَّجُلَانِ يَتَفَاوَضَانِ الأَحَادِيثَ وَالظَّلَامُ يَحْجِبُ كُلّاً مِنْهُمَا عَنْ عَيْنَيْ صَاحِبِهِ.
فَجَسَّ عُمَرُ وِسَادَةَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَإِذَا هِيَ بَرْذَعَةٌ ـ كِسَاءٌ يُلْقَى عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ ـ وَجَسَّ فِرَاشَهُ فَإِذَا هُوَ حَصىً، وَجَسَّ دِثَارَهُ ـ غِطَاءَهُ ـ فَإِذَا هُوَ كِسَاءٌ رَقِيقٌ لَا يَقِي شَيْئاً فِي الْبَرْدِ فِي دِمَشْقَ.
فَقَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللهُ، أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ؟ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ؟
فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَتَذْكُرُ يَا عُمَرُ حَدِيثاً حَدَّثَنَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: أَيَّ حَدِيثٍ؟
قَالَ: أَلَمْ يَقُلْ: «لِيَكُنْ بَلاغُ أَحَدِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ».
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: فَمَاذَا فَعَلْنَا بَعْدَهُ يَا عُمَرُ؟
فَبَكَى عُمَرُ، وَبَكَى أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمَا زَالا يَتَجَاوَبَانِ بِالْبُكَاءِ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْهِمَا الصُّبْحُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ وَالآلُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مِمَّنْ أَعْرَضُوا عَنِ الدُّنْيَا بِقُلُوبِهِمْ، فَتَرَامَتْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الخميس: 19/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 13/ شباط / 2020م
نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الوُقُوفِ أَمَامَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... المزيد
إِنَّ اللهَ تعالى سَيَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ، فَهَلِ الوَاحِدُ مِنَّا حَرِيصٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُذَكِّرُهُ بِاللهِ تعالى؟ لِأَنَّ الذي يَصْطَفي لِنَفْسِهِ صَاحِبَاً فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّهِ لِصَاحِبِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ صَاحِبَهُ في ... المزيد
لَقَدْ طَبَعَ اللهُ تعالى الإِنْسَانَ عَلَى حُبِّ المَالِ، وَجَعَلَهُ مِنِ زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ ... المزيد
إِنَّ حُبَّ اللهِ تعالى، وَحُبَّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِيَانِ للإِنْسَانِ الكَمَالَ وَالشَّرَفَ وَالعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ وَالمَكَانَةَ، بَلْ يُعْطِيَانِ الُمؤْمِنَ القُدْرَةَ ... المزيد
زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعُدَّةُ الزَّمَانِ بَعْدَ اللهِ تعالى الشَّبَابُ النَّاشِؤُونَ في طَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، الذينَ تَكَادُ أَنْ لَا تَعْرِفَ لَهُمْ زَلَّةً، أَو تُعْهَدَ عَنْهُمْ صَبْوَةٌ، الذينَ يَتَسَابَقُونَ في مَيَادِينِ ... المزيد
الأَصْلُ الأَصِيلُ في الإِنْسَانِ السَّوِيِّ خُلُقُ المَحَبَّةِ لَا خُلُقُ الكَرَاهِيَةِ، فَالمُؤْمِنُ صَاحِبُ قَلْبٍ مُشْرِقٍ دَائِمَاً، مُنْفَتِحٍ لِكُلِّ عِبَادِ اللهِ تعالى، يُرِيدُ الخَيْرَ لِجَمِيعِ خَلْقِ اللهِ تعالى، وَإِذَا أَبْغَضَ ... المزيد