510ـ خطبة الجمعة: أعظم صنائع المعروف

510ـ خطبة الجمعة: أعظم صنائع المعروف

.

510ـ خطبة الجمعة: أعظم صنائع المعروف

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا أَحَبَّ اللهُ تعالى قَوْمَاً شَرَحَ صُدُورَهُمْ لِطَاعَتِهِ وَالاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمْتَهُ وَفَضْلَهُ وَمِنَّتَهُ تَمَّمَهَا وَكَمَّلَهَا عَلَيْهِمْ بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَجَعَلَهُمْ للخَيْرَاتِ سَبَّاقِينَ، وَلِطَاعَةِ رَبِّهِمْ مُشْتَاقِينَ تَوَّاقِينَ، وَصَيَّرَهُمْ مَفَاتِيحَ للخَيْرَاتِ وَالمَبَرَّاتِ، وَسَبَبَاً مِنْ أَسْبَابِ الرَّحَمَاتِ، يَوْمَ يُفَرِّجُ اللهُ تعالى بِهِمْ هُمُومَ المُسْلِمِينَ وَغُمُومَهُمْ، وَيُفَرِّجُ بِهِمْ كُرُبَاتِ المَكْرُوبِينَ، وَيَرْحَمُ بِهِمُ المُعَذَّبِينَ، فَيَجْعَلُهُمْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَهْلِ صَنَائِعِ المَعْرُوفِ، فَيَمْلَأُ دَوَاوِينَهُمْ بِالحَسَنَاتِ العَظِيمَةِ التي لَا يَعْلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، فَيَرَوْنَ آثَارَهَا ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

سَعَادَتُنَا بِالتَّعَاوُنِ وَالتَّوَاصُلِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: سَعَادَتُنَا لَا تَتِمُّ وَلَا تَكُونُ إلا بِالتَّعَاوُنِ وَالتَّوَاصُلِ، وَحَيَاتُنَا لَا تَسْتَقِرُّ إلا بِالتَّعَاطُفِ وَفُشُوِّ المَوَدَّةِ، وَلَا يُحِيطُ البَلَاءُ بِنَا إلا حِينَ يَفْشُو التَّقَاطُعُ وَالتَّدَابُرُ بَيْنَنَا، حَيْثُ لَا يَعْرِفُ كُلٌّ مِنَّا إلا نَفْسَهُ وَمَصَالِحَهُ، وَلَا يَعْتَرِفُ أَحَدُنَا بِحَقِّ الغَيْرِ عَلَيْهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ رَحْمَةِ الله تعالى بِخَلْقِهِ أَنَّهُ خَلَقَ خَلْقَاً جَعَلَهُمْ للمَعْرُوفِ أَهْلَاً، فَحَبَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ إِسْدَاءَهُ، وَوَجَّهَهُمْ لِفِعْلِ المَعْرُوفِ كَمَا يُوَجِّهُ المَاءَ إلى الأَرْضِ المَيْتَةِ، فَتَحْيَا بِهِ، وَيَحْيَا بِهِ أَهْلُهَا.

وَإِذَا أَرَادَ اللهُ تعالى بِعَبْدِهِ خَيْرَاً جَعَلَ قَضَاءَ حَوَائِجِ النَّاسِ على يَدَيْهِ، وَمَنْ كَثُرَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْهِ كَثُرَ تَعَلُّقُ النَّاسِ بِهِ، فَإِنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ للهِ تعالى فِيهَا فَقَدْ شَكَرَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَصَّرَ وَمَلَّ وَتَبَرَّمَ فَقَدْ عَرَّضَهَا للزَّوَالِ ثمَّ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ عَنْهُ.

روى البيهقي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للهِ أَقْوَامَاً اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا عَنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ».

وروى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَأَسْبَغَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ شَيْئَاً مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَتَبَرَّمَ، فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ للزَّوَالِ».

أَعْظَمُ صَنَائِعِ المَعْرُوفِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَعْظَمِ صَنَائِعِ المَعْرُوفِ المُقَرِّبَةِ إلى اللهِ تعالى، الصُّلْحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَقَاطَعُوا، وَالصُّلْحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَهَاجَرُوا، وَقَطْعُ أَسْبَابِ الضَّغَائِنِ وَالشَّحْنَاءِ بَيْنَهُمْ، وَقَطْعُ أَسْبَابِ الفِتَنِ وَالبَغْضَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مِصدَاقُ قَوْلِهِ تَعالَى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الصُّلْحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا فَسَدَت ذَاتُ البَيْنِ بَيْنَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ سَعَى في لَمِّ شَمْلٍ قَدْ تَفَرَّقَ، السَّعِيدُ مَنْ سَعَى لِجَمْعِ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ؛ فَمَا أَحْوَجَ النَّاسَ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمُ الخُصُومَاتُ وَالتَّنَازُعَاتُ إلى مَنْ يَسْعَى لِجَمْعِ شَمْلِهِمْ، إلى مَنْ يُؤَلِّفُ قُلُوبَهُمْ، إلى مَنْ يَقْطَعُ سَبِيلَ الشَّيْطَانِ عَنْهُمْ، إلى مَنْ يَقِفُ مَعَهُمْ لِكَيْ يُذَكِّرَهُمْ بِمَا في العَفْوِ مِنَ الأَجْرِ عِنْدَ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: فَمِنْ صَنَائِعِ المَعْرُوفِ إِصْلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، الإِصْلَاحُ بَيْنَ المُتَخَاصِمِينَ المُتَدَابِرِينَ المُتَقَاتِلِينَ، وَهَذِهِ مُهِمَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَوَاجِبٌ دِينِيٌّ مُقَدَّسٌ، لَا يَسْتَطِيعُهُ إلا مَنْ شَرُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَصَفَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ، وَتَضَاعَفَ الإِيمَانُ في قُلُوبِهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُهُ إلا أَصْحَابُ الأَذْوَاقِ السَّلِيمَةِ، وَالطِّبَاعِ المُسْتَقِيمَةِ، وَالضَّمَائِرِ الحَيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُهُ إلا مَنْ يُحِبُّونَ الخَيْرَ للآخَرِينَ، وَيَكْرَهونَ الشَّرَّ لَهُمْ.

فَأَهْلُ المَعْرُوفِ في الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ المَعْرُوفِ في الآخِرَةِ، وَمِنْ سِمَاتِ أَهْلِ المَعْرُوفِ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ لِإِطْفَاءِ نَارِ الفِتَنِ وَإِزَالَةِ الشُّرُورِ، وَحَقْنِ الدِّمَاءِ، وَصِيَانَةِ الأَنْفُسِ، وَحِفْظِ الأَمْوَالِ، وَتَأْلِيفِ القُلُوبِ، فَهُمْ كَالمَاءِ الذي يُطْفِئُ النَّارَ قَبْلَ اسْتِفْحَالِ شَرِّهَا، أَو كَالنُّورِ الذي يُبَدِّدُ الظَّلَامَ قَبْلَ أَنْ يَعُمَّ.

يَا عِبَادَ اللهِ: عُودُوا إلى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُنَا الصَّالِحُ في إِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ وَالإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ نَتِيجَةٌ لِإِهْمَالِ ذَلِكَ المَبْدَأِ القَوِيمِ، فَمَا اشْتَدَّتِ الفِتَنُ، وَلَا أُشْعِلَتِ الحُرُوبُ، وَلَا أُرِيقَتِ الدِّمَاءُ، وَلَا أُزْهِقَتِ الأَنْفُسُ، وَلَا بُدِّدَتِ الأَمْوَالُ، وَلَا قُطِّعَتِ الأَرْحَامُ، وَلَا خُرِّبَتِ البُيُوتُ، وَلَا قُوِّضَتِ الأُسَرُ، وَلَا شُرِّدَ الأَطْفَالُ، وَلَا مُزِّقَتِ الجَمَاعَاتُ، إلا لِأَنَّ النَّاسَ أَهْمَلُوا الصُّلْحَ وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَرَكُوا الشَّرَّ يَنْتَشِرُ حَتَّى عَمَّ القَرِيبَ وَالبَعِيدَ، وَقَضَى على الأَخْضَرِ وَاليَابِسِ، وَأَهْلَكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، فَهَلْ مِنْ عَوْدَةٍ لِإِصْلاحِ ذَاتِ البَيْنِ؟ هَلْ مِنْ عَوْدَةٍ لِحُبِّ الخَيْرِ للآخَرِينَ؟

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 14/ ذو الحجة /1437هـ، الموافق: 16/أيلول / 2016م

 2016-09-16
 2990
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

11-07-2025 75 مشاهدة
947ـ خطبة الجمعة: احذر الغرور ساعة العطاء

أَقْبَحُ وَصْفٍ فِي الإِنْسَانِ العُجْبُ وَالغُرُورُ بِمَا أَسْبَغَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ؛ وَالأَقْبَحُ مِنْهُ مَنْ ظَنَّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ مَا بِهِ وَلَو كَانَ مُقِيمًا عَلَى المَعْصِيَةِ؛ وَالأَقْبَحُ مِنْ ... المزيد

 11-07-2025
 
 75
04-07-2025 406 مشاهدة
946ـ خطبة الجمعة: تفرسوا وجوه الناس

أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد

 04-07-2025
 
 406
25-06-2025 654 مشاهدة
945ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾

لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد

 25-06-2025
 
 654
19-06-2025 979 مشاهدة
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل

لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد

 19-06-2025
 
 979
12-06-2025 1122 مشاهدة
943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد

 12-06-2025
 
 1122
04-06-2025 440 مشاهدة
942ـ خطبة الجمعة: ماذا نقول لإخوتنا في غزة أيام العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد

 04-06-2025
 
 440

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3236
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424853475
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :