63ـ طاعة الوالدين وإن كانا غائبين

63ـ طاعة الوالدين وإن كانا غائبين

63ـ طاعة الوالدين وإن كانا غائبين

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ طَاعَةَ الوَالِدَيْنِ لَا تَخْتَصُّ بِحُضُورِهِمَا، بَلْ تَجِبُ حَتَّى وَلَو كَانَا غَائِبَيْنِ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالمُشَاهَدَةِ؛ إِذَا حَضَرَا ـ أَو أَحَدُهُمَا ـ أَطَاعَهُمَا، وَإِذَا غَابَا عَصَاهُمَا، أَو لَمْ يُطِعْهُمَا، فَهَذَا مَعْصِيَةٌ، لِأَنَّ طَاعَةَ الوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ، وَلَا زَمَانٍ، وَلَا حُضُورٍ، أَو غِيَابٍ، بَلْ تَخْتَصُّ بِتَنْفِيذِ الأَمْرِ، وَالاجْتِنَابِ عَنِ النَّهْيِ.

أَوْلَادُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُمَثِّلُونَ هَذَا الأَمْرَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يُوَضِّحُ هَذَا المَعْنَى إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عِنْدَمَا طَلَبُوا مِنْ أَبِيهِمْ أَخَاهُمْ بِنْيَامِينَ، بِنَاءً عَلَى طَلَبِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَطَبْعًا كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ.

وَافَقَهُمْ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ العَهْدَ أَنْ يُرْجِعُوهُ إِلَيْهِ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَنْهُ: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾.

ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِمُ الأَمْرَ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

لَمَّا كَانَ أَوْلَادُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ ذَوِي الجَمَالِ، وَالهَيْئَةِ الحَسَنَةِ، وَالمَنْظَرِ الجَمِيلِ، وَالبَهَاءِ الحَسَنِ، خَشِيَ عَلَيْهِمْ ـ لَو دَخَلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ـ أَنْ يُصِيبَهُمُ النَّاسُ بِالعَيْنِ، وَالعَيْنُ حَقٌّ، تُنْزِلُ الفَارِسَ عَنْ فَرَسِهِ، وَتُدْخِلُ الجَمَلَ القِدْرَ، لِذَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ وَالسدي وَغَيْرُ وَاحِدٍ رَحِمَهُمُ اللهُ تعالى.

عِلْمًا بِأَنَّ سَيِّدَنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الاحْتِرَازَ مِنْهُ لَا يَرُدُّ قَدَرَ اللهِ تعالى وَقَضَاءَهُ، لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتعالى إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً أَمْضَاهُ، وَلَا يُخَالَفُ، وَلَا يُمَانَعُ، وَلَكِنَّ شَفَقَةَ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرَحْمَتَهُ بِأَوْلَادِهِ دَفَعَهُ ذَلِكَ إلى أَمْرِهِمْ بِالدُّخُولِ مِنَ الأَبْوَابِ المُتَفَرِّقَةِ خَشْيَةَ العَيْنِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ تعالى إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً، إِنَّمَا هِيَ الحَاجَةُ في نَفْسِهِ، حَمَلَتْهُ شَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ.

 

فَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى طَاعَةِ الوَلَدِ وَالِدَيْهِ في حَالِ غِيَابِهِمَا عَنْهُ، وَلَو كَانَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ، إِذْ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الشَّامِ ـ في فلسطين ـ وَدُخُولُهُمْ إِنَّمَا هُوَ في مِـصْرَ، وَبَيْنَهُمَا المَسَافَاتُ الطَّوِيلَةُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَمْنَعْ أَوْلَادَ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ تَنْفِيذِ رَغْبَةِ وَالِدِهِمْ مَانِعٌ لَدَيْهِمْ، وَأَطَاعُوهُ مَعَ البُعْدِ وَالغَيْبَةِ عَنْهُ، وَهَكَذَا شَأْنُ المُطِيعِ، حَضَرَ آمِرُهُ أَمْ غَابَ. وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ طَاعَةَ الوَالِدَيْنِ تَكْلِيفٌ شَرْعِيٌّ مِنَ اللهِ تعالى، وَمِنْ حَضْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالوُقُوعُ في عِصْيَانِهِمَا في حَقِيقَتِهِ عِصْيَانٌ لِأَمْرِ اللهِ تعالى، لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْنَا طَاعَةُ الوَالِدَيْنِ في حَالِ حُضُورِهِمَا، أَو في حَالِ غِيَابِهِمَا، في حَالِ حَيَاتِهِمَا، أَو بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَلْيَذْكُرْ كُلٌّ مِنَّا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.

طَاعَةُ الوَالِدَيْنِ في حُضُورِهِمَا، وَعِصْيَانُهُمَا في غَيْبَتِهِمَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ وَصْفِ المُؤْمِنِ، لِأَنَّ المُؤْمِنَ مُطِيعٌ لِوَالِدَيْهِ امْتِثَالَاً لِأَمْرِ اللهِ تعالى، وَامْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ تعالى مَطْلُوبٌ مِنَّا شَرْعَاً في سَائِرِ أَحْوَالِنَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِبِرِّ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 15/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 9/ شباط / 2020م

 2020-02-09
 1299
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  بر الوالدين

25-10-2020 2994 مشاهدة
71ـ لين الجانب لهما والقول الكريم لهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُخَاطِبَهُمَا بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخَاطِبَهُمَا بِالعِبَارَاتِ الحَادَّةِ، وَالكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، وَالغِلْظَةِ ... المزيد

 25-10-2020
 
 2994
18-10-2020 2587 مشاهدة
70ـ الإنفاق على الوالدين الفقيرين

وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى ... المزيد

 18-10-2020
 
 2587
04-10-2020 1460 مشاهدة
69ـ الحرص على هدايتهما (2)

حُقُوقُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِحًا أَمِينًا لَهُمَا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَخَاصَّةً ... المزيد

 04-10-2020
 
 1460
21-09-2020 1240 مشاهدة
68ـ الحرص على هدايتهما (1)

هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ ... المزيد

 21-09-2020
 
 1240
08-03-2020 2209 مشاهدة
67ـ وجوب توقيرهما وتكريمهما

مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا. كَيْفَ لَا يَكُونُ ... المزيد

 08-03-2020
 
 2209
06-03-2020 1552 مشاهدة
66ـ شكر الله تعالى على ما أنعم (2)

مِنْ فَوَائِدِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ كَمَالُ الإِيمَانِ، وَحُسْنُ الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَهُوَ سَبَبٌ في بَرَكَةِ العُمُرِ، ... المزيد

 06-03-2020
 
 1552

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3235
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424807710
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :