719- خطبة الجمعة :هنيئًا لك يا أيها المتبع
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: في مِثْلِ هَذِهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ وَمُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ، حَجَّ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في السَّنَةِ العَاشِرَةِ مِنَ الهِجْرَةِ حَجَّةَ الوَدَاعِ، في هذِهِ الحَجَّةِ المُبَارَكَةِ وَقَفَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَخَطَبَ في الصَّحْبِ الكِرَامِ خُطْبَةَ الوَدَاعِ، وَكَانَتْ خُطْبَةً لَا تَسْتَغْرِقُ إِلَّا بِضْعَ دَقَائِقَ، وَلَكِنَّهَا أَهَمُّ مِنْ خُطَبٍ تَسْتَغْرِقُ سَاعَاتٍ طَوِيلَةً، وَلَا عَجَبَ في ذَلِكَ، فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُوتِيَ جَوَامِعَ الكَلِمِ، وَهُوَ أَفْصَحُ العَرَبِ، وَاخْـتُصِرَتْ لَهُ المَعَانِي اخْتِصَارًا، فَكَانَ مِمَّا قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ» رواه المروزي في السنة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
لَقَدْ كَانَ حَدِيثُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَ مُوَدِّعٍ مُحِبٍّ نَاصِحٍ يُرِيدُ الخَيْرَ لِأُمَّتِهِ وَللبشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ سَوَاءٌ آمَنَتْ أَمْ لَمْ تُؤْمِنْ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» رواه الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَحْوَجَنَا أَنْ نَنْتَهِزَ فُرْصَةَ العِيدِ لِنَكُونَ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ، لِنَصِلْ أَرْحَامَنَا، وَنَتَفَقَّدِ الأَرَامِلَ وَاليَتَامَى وَالضُّعَفَاءَ، لِنُحَقِّقْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه الإمام مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
مَا أَحْوَجَنَا أَنْ نَجْعَلَ العِيدَ مُنَاسَبَةً كَرِيمَةً لِتَصَافِي القُلُوبِ المُتَخَاصِمَةِ، وَغَسْلِ أَدْرَانِ الحِقْدِ وَالحَسَدِ وَالغِلِّ مِنَ النُّفُوسِ، مَا أَحْوَجَنَا إلى قُلُوبٍ بَيْضَاءَ نَقِيَّةٍ، مَا أَحْوَجَنَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الآخِرَةِ، أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»؟ رواه الترمذي عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:
إِنَّ الـبَـرِيَّـةَ يَـوْمَ مَـبْـعَـثِ أَحْمَدٍ *** نَـظَـرَ الإِلَهُ لَهَا فَـبَدَّلَ حَالَهَا
بَلْ كَرَّمَ الإنْسَانَ حِينَ اخْتَارَ مِنْ *** خَيْرِ البَرِيَّةِ نَجْمَهَا وَهِلالَهَا
هَلْ وَجَدَتِ البَشَرِيَّةُ خَيْرًا عِنْدَمَا أَعْرَضَتْ عَنْ شَرْعِ هَذَا الحَبِيبِ الأَعْظَمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
هَنِيئًا لَكَ يَا أَيُّهَا المُتَّبِعُ.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 10/ ذو الحجة /1441هـ، الموافق: 31/تموز / 2020م
ارسل إلى صديق |
يَقُولُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَزِيزِ: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾. وَمِنْ أَيَّامِ اللهِ يَوْمُ عَاشُورَاءَ. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ ... المزيد
مَعَ إِشْرَاقَةِ عَامٍ هِجْرِيٍّ جَدِيدٍ يَجْدُرُ بِنَا أَنْ نَقِفَ بَعْضَ الوِقْفَاتِ عَلَى هِجْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَّهَا تَكُونُ سَبَبًا في تَحْرِيكِ الهِمَمِ، وَاسْتِنْهَاضِ ... المزيد
يَتَّفِقُ جَمِيعُ العُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ الاجْتِمَاعَ وَالائْتِلَافَ مَطْلَبٌ ضَرُورِيٌّ لَا غِنًى عَنْهُ لِأُمَّةٍ تُرِيدُ الفَلَاحَ وَالنَّجَاحَ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَهُوَ مَطْلَبٌ ضَرُورِيٌّ لَا غِنًى عَنْهُ لِأُسْرَةٍ وَعَائِلَةٍ تُرِيدُ ... المزيد
مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى العَبْدِ المُسْلِمِ أَنْ يَجْعَلَ صَدْرَهُ سَلِيمًا مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ، نَقِيًّا مِنَ الغِلِّ وَالحَسَدِ، صَافِيًا مِنَ الغَدْرِ وَالخِيَانَةِ، مُعَافًى مِنَ الضَّغِينَةِ وَالحِقْدِ، لَا ... المزيد
أَيَّامُ العِيدِ هِيَ مِنْ أَكْبَرِ الفُرَصِ للعَوْدَةِ إلى اللهِ تعالى الحَيِّ القَيُّومِ المُنْعِمِ المُتَفَضِّلِ، وَمَنْ لَمْ يَعُدْ إلى اللهِ تعالى فَمَا اسْتَفَادَ مِنَ العِيدِ شَيْئًا. حَقِيقَةُ العِيدِ أَنْ نَعُودَ إلى اللهِ تعالى مُمْتَثِلِينَ ... المزيد
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى أَنْ فَاضَلَ بَيْنَ الأَزْمِنَةِ، فَاصْطَفَى وَاجْتَبَى مِنْهَا مَا شَاءَ بِرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾. وَذَلِكَ التَّفْضِيلُ ... المزيد