776ـ خطبة الجمعة: لا تحزنوا على الدنيا

776ـ خطبة الجمعة: لا تحزنوا على الدنيا

776ـ خطبة الجمعة: لا تحزنوا على الدنيا

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا هُوَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ النَّبِيُّ المُرَبِّي، هُوَ الأُسْوَةُ وَالقُدْوَةُ، وَالسَّبِيلُ سَبِيلُهُ، وَالسُّنَّةُ سُنَّتُهُ، لَمْ تَكُنِ الدُّنْيَا يَوْمًا مَقْصِدَهُ وَغَايَتَهُ، إِنَّمَا هِيَ بُلْغَةٌ وَوَسِيلَةٌ، أَعْرَضَ عَنْهَا بِقَلْبِهِ حَتَّى أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يَتَّخِذْ مِنْهَا رِيشًا، وَلَمْ يَعْتَقِدْهَا قَرَارًا، وَلَمْ يَرْجُ بِهَا مُقَامًا، فَكَانَ يَرَاهَا نَفَسًا مِنَ الأَنْفَاسِ إِذَا قِيسَتْ بِالحَيَاةِ الآخِرَةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ الدُّنْيَا، فَلَمْ يُرِدْهَا وَلَمْ يَخْتَرْهَا، بَلِ اخْتَارَ التَّقَلُّلَ مِنْهَا، وَالصَّبْرَ عَلَى شِدَّةِ العَيْشِ فِيهَا، روى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، قُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا ـ أَوْ قَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا ـ فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ».

لَا تَحْزَنُوا عَلَى الدُّنْيَا إِنْ فَاتَتْ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا تَحْزَنُوا عَلَى الدُّنْيَا إِنْ فَاتَتْ مَا دَامَ الإِيمَانُ مُسْتَقِرًّا في قُلُوبِكُمْ، فَالدُّنْيَا ظِلٌّ زَائِلٌ وَعَرَضٌ حَائِلٌ.

روى الإمام مسلم عَنْ عُرْوَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَارٌ.

قَالَ: قُلْتُ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟

قَالَت: الْأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ . . . هَذِهِ بُيوُتُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وروى الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ».

هَذَا هُوَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رَفَعَ اللهُ تعالى ذِكْرَهُ، وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ؛ فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُدْوَةً لِكُلِّ مُصَابٍ بِضُرٍّ وَبَلْوَى.

وروى البيهقي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَطِيفَةٌ مَثْنِيَّةٌ، فَانْطَلَقَتْ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ حَشْوُهُ الصُّوفُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟».

قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فُلَانَةٌ الْأَنْصَارِيَّةُ دَخَلَتْ عَلَيَّ، فَرَأَتْ فِرَاشَكَ فَذَهَبَتْ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِهَذَا.

قَالَ: «رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ، فَوَاللهِ لَوْ شِئْتُ لَأَجْرَى اللهُ مَعِيَ جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ».

وروى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: روى الإمام مسلم عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: أَلَسْتُمْ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ (التَّمْرِ الرَّدِيءِ) مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: مَعَ كُلِّ الذي عَانَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَفَائِلًا، وَيَكْرَهُ التَّطَيُّرَ وَالتَّشَاؤُمَ، وَيُعْجِبُهُ الفَأْلُ الحَسَنُ، وَالكَلِمَةُ الحَسَنَةُ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ».

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا الذي حَلَّ بِنَا؟ الكَثِيرُ قَابِضٌ عَلَى قَلْبِهِ، مُنْشَغِلٌ فِكْرُهُ، خَائِفٌ عَلَى رِزْقِهِ أَنْ يَنْقَطِعَ، وَحَيَاتِهِ أَنْ تَنْتَكِسَ، ظَانٌّ أَنَّ الرِّزْقَ بِيَدِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَهُوَ يَنْسَى قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الذي رَزَقَنَا صِغَارًا يَرْزُقُنَا كِبَارًا، وَلَكِنْ عَلَيْنَا بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ مِنْ ذُنُوبِنَا التي عَمَّتْ وَطَمَّتْ وَتَعَامَاها الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ.

تَذَكَّرُوا يَا عِبَادَ اللهِ قَوْلَ سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمِهِ: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾.

اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ وَإِلَيْكَ المُشْتَكَى، وَأَنْتَ المُسْتَعَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، نَسْتَعِينُكَ اللَّهُمَّ عَلَى فَسَادٍ هُوَ فِينَا، وَنَسْأَلُكَ صَلَاحَ أَمْرِنَا كُلِّهِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 12/ محرم /1443هـ، الموافق: 20/آب / 2021م

 2021-08-20
 4373
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

26-04-2024 47 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 47
19-04-2024 242 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 242
12-04-2024 938 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 938
09-04-2024 610 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 610
04-04-2024 714 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 714
28-03-2024 651 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 651

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414216382
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :