911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ الاسْتِطَاعَةِ للنِّسَاءِ وُجُودُ مَحْرَمٍ مَعَهَا أَوْ زَوْجٍ.
وَزَادَ فَضْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ للحَجِّ المَبْرُورِ جَزَاءً إِلّا الجَنَّةَ دَارَ السَّلَامِ.
آثَارُ الحَجِّ عَلَى النَّفْسِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: أَقُولُ لِحُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، هَنِيئًا لَكُمْ حَجُّكُمْ، وَحَتَّى يَكُونَ حَجُّكُمْ مَبْرُورًا لَاحِظُوا الحِكَمَ البَالِغَةَ مِنْ حَجِّكُمْ، فَمِنْ هَذِهِ الحِكَمِ ـ إِضَافَةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ في الخُطْبَةِ المَاضِيَةِ:
سَابِعًا: عِنْدَمَا تُحْرِمُونَ بِالحَجِّ، وَتَلْبَسُونَ ثِيَابَ الإِحْرَامِ، وَتُلَبُّونَ بَعْدَ الإِحْرَامِ، وَقَدْ تَعَلَّمْتُمْ مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ، تَتَرَبَّى النَّفْسُ وَتَتَرَوَّضُ عَلَى تَرْكِ المُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ هَذَا حَالَ الحَاجِّ، وَهُوَ الذي تَرَكَ مَا كَانَ في الأَصْلِ مُبَاحًا، كَلُبْسِ المَخِيطِ، وَالطِّيبِ، وَمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِ؟
ثَامِنًا: تَقْبِيلُ الحَجَرِ الأَسْوَدِ، بِدُونِ مُزَاحَمَةٍ، يُرَبِّي المُسْلِمَ عَلَى تَعْظِيمِ السُّنَّةِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِ اللهِ تعالى، عَرَفَ العِلَّةَ وَالغَايَةَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَلَا يَتَعَدَّى عَلَى شَرْعِ اللهِ تعالى بِعَقْلِهِ القَاصِرِ، بَلْ هَذَا الأَمْرُ يُرَبِّيهِ عَلَى العُبُودِيَّةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عِنْدَمَا جَاءَ لِيُقَبِّلَ الحَجَرَ الأَسْوَدَ، قَالَ بَعْدَ تَقْبِيلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
تَقْبِيلُ الحَجَرِ يُعَلِّمُنَا الاقْتِدَاءَ وَالاتِّبَاعَ وَالْتِزَامَ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾.
تَاسِعًا: عِنْدَمَا يَشْرَبُ الحَاجُّ مَاءَ زَمْزَمَ يَتَذَكَّرُ فَضْلَ اللهِ تعالى وَنِعْمَتَهُ عَلَى النَّاسِ بِهَذَا المَاءِ المُبَارَكِ، الذي شَرِبَ مِنْهُ مَلَايِينُ النَّاسِ عَلَى مَدَى دُهُورٍ طَوِيلَةٍ، وَسَيَشْرَبُونَ وَلَمْ يَنْضُبْ، عِنْدَ شُرْبِهِ يَتَذَكَّرُ الحَاجُّ خُصُوصِيَّةَ هَذَا المَاءِ المُبَارَكِ، بِأَنَّهُ لِمَا شُرِبَ لَهُ، رَوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَاءُ زَمْزَمَ، لِمَا شُرِبَ لَهُ».
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ، وَشَرُّ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءٌ بِوَادِي بَرَهُوتٍ بَقِيَّةُ حَضْرَمَوْتَ كَرِجْلِ الْجَرَادِ مِنَ الْهَوَامِّ يُصْبِحُ يَتَدَفَّقُ وَيُمْسِي لَا بَلَالَ بِهَا».
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ». أَيْ: تُشْبِعُ شَارِبَهَا كَمَا يُشْبِعُهُ الطَّعَامُ.
تَاسِعًا: وَأَمَّا الوُقُوفُ بِأَرْضِ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُذَكِّرُ الحَاجَّ بِازْدِحَامِ الخَلَائِقِ يَوْمَ المَحْشَرِ، حَيْثُ يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا (أَيْ: غَيْرَ مَخْتُونِينَ).
يُذَكِّرُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ مُشَاةً حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَرْبِطْ أَنْفُسَنَا جَمِيعًا بِحِكَمِ الحَجِّ وَعِبَرِهِ، وَخَاصَّةً عِنْدَمَا يُلَبِّي الحُجَّاجُ قَائِلِينَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ.
أَنْ تَكُونَ تَلْبِيَتُنَا لِأَوَامِرِ اللهِ تعالى جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 17/ شوال /1445هـ، الموافق: 26/ نيسان / 2024م
ارسل إلى صديق |
إِنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الأَدَبِ الأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى، بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ أَدَبٍ، وَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى هُوَ حُسْنُ الانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالحَيَاءِ مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى. ... المزيد
لَقَدْ جَاءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةٍ مِنْ عِنْدِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِخَلْقِهِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَتَأَدَّبُ مَعَ حَبِيبِهِ ... المزيد
مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ وَإِنْصَافٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُو جَمِيعَ العُقَلَاءِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ إلى الأَدَبِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ... المزيد
العَارُ كُلُّ العَارِ أَنْ لَا يَعْرِفَ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ لَمْ يَرْتَبْ وَلَمْ يَشُكَّ في صِدْقِهِ وَفي صِدْقِ مَا جَاءَ ... المزيد
لَقَدْ وَهَبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ البَشَرِيَّةَ حَيَاةَ سَعَادَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ، وَرُوحًا نَاضِرَةً، وَذَلِكَ بِظُهُورِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا ... المزيد
العُلَمَاءُ العَامِلُونَ الرَّبَّانِيُّونَ نُجُومٌ جَعَلَهُمُ اللهُ تعالى هِدَايَةً لِمَنْ أَرَادَ سَلَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، العُلَمَاءُ العَامِلُونَ هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ المَرْضِيُّونَ، أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ مَشْهُودٍ ... المزيد