933ـ خطبة الجمعة: أسباب النصر (1)
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِنَ المَعْلُومِ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ مُسْلِمٍ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ، وَأَنْ يُمَكِّنَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
وَهَذَا وَعْدٌ صَادِقٌ لَا بُدَّ أَنْ يَتَحَقَّقَ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخْلِفُ المِيعَادَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ هَذَا الوَعْدُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلِصَحْبِهِ الكِرَامِ وَلِلتَّابِعِينَ وَسَيَتَحَقَّقُ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّينِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: وَلَكِنَّ وَاقِعَ المُسْلِمِينَ اليَوْمَ مَرِيرٌ وَمَأْسَاوِيٌّ، تَدَاعَى عَلَيْهِمْ أَعْدَاءُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِتَحْرِيضٍ مِنْ أَبْنَاءِ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ، كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَرَّقُوا الأُمَّةَ، وَشَتَّتُوا شَمْلَهَا، حَتَّى ذَهَبَتْ رِيحُهُمْ، وَأَخَذُوا يُذَبِّحُونَ المُسْلِمِينَ، كَمَا فِي فِلَسْطِينَ عَامَّةً وَفِي غَزَّةَ خَاصَّةً، عَلَى مَرْأىً مِنَ العَالَمِ، وَمِنْ دُونِ اسْتِحْيَاءٍ.
يَا عِبَادَ اللهِ: وَاقِعُ الأُمَّةِ الضَّعْفُ وَالذِّلَّةُ وَالتَّفَرُّقُ، حَتَّى صَارَتْ أَضْعَفَ الأُمَمِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
أَسْبَابُ النَّصْرِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ أَسْبَابَ النَّصْرِ وَنَأْخُذَ بِهَا لَعَلَّ اللهَ تَعَالَى يَرْفَعُنَا مِنَ الحَضِيضِ الَّذِي وَصَلْنَا إِلَيْهِ، لَعَلَّ اللهَ تَعَالَى يُعِيدُ إِلَيْنَا عِزَّنَا الَّذِي ذَهَبَ، لَعَلَّنَا نَنْتِشِلُ أَنْفُسَنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الذُّلِّ وَالهَوَانِ وَتَكَالُبِ الأَعْدَاءِ عَلَيْنَا.
يَا عِبَادَ اللهِ: أَهَمُّ أَسْبَابِ النَّصْرِ:
أَوَّلًا: الإِيمَانُ الصَّادِقُ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ، الإِيمَانُ الصَّادِقُ الَّذِي يُصَدِّقُهُ العَمَلُ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ المُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾. وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا يُخْلَفُ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إِيمَانٍ صَادِقٍ يُصَدِّقُهُ العَمَلُ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ مُوَافِقٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْصِدُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ شُؤُونِ الحَيَاةِ.
ثَانِيًا: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى حَقَّ التَّوَكُّلِ، وَالاعْتِمَادُ عَلَيْهِ حَقَّ الاعْتِمَادِ، وَالاسْتِنْصَارُ بِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، مَعَ الدُّعَاءِ وَالاسْتِغَاثَةِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ أَنْ يُحَقِّقَ النَّصْرَ، وَكُلُّ هَذَا بَعْدَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا، وَإِلَّا كَانَ التَّوَكُّلُ تَوَاكُلًا، وَاللهُ تَعَالَى وَعَدَ المُتَوَكِّلِينَ لَا المُتَوَاكِلِينَ بِالنَّصْرِ.
وَيَوْمُ بَدْرٍ أَعْظَمُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ، بَعْدَ أَنْ أَخَذَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالأَسْبَابِ كَامِلَةً كَمَا أُمِرَ بِهَا، اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ دَاعِيًا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمئَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ». فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ.
فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ.
ثَالِثًا: جَمْعُ كَلِمَةِ الأُمَّةِ إِذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً وَمُتَشَتِّتَةً، لِأَنَّ وَحْدَةَ الصَّفِّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ النَّصْرِ الثِّقَةُ بِاللهِ تَعَالَى، وَالثِّقَةُ بِوَعْدِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيُعْلِي كَلِمَتَيِ الحَقِّ وَالدِّينِ، وَسَيَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ، وَاللهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
الحَقُّ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَالزَّبَدُ يَذْهَبُ جُفَاءً، فَعَلَيْنَا أَنْ نَنْهَضَ مِنْ غَفْلَتِنَا وَرُقَادِنَا، وَنَعْزِمَ بِقُلُوبِنَا عَلَى العَوْدَةِ إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَالالْتِزَامِ بِكِتَابِهِ تَعَالَى، وَالاعْتِصَامِ بِهَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَعَلَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُنَا عَلَى عَدُوِّهِ وَعَدُوِّنَا الَّذِينَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 12/ شوال /1446هـ، الموافق: 11/ نيسان / 2025م
أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد
لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد
لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد
لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد