919ـ خطبة الجمعة: خلق الراعي الأعظم

919ـ خطبة الجمعة: خلق الراعي الأعظم

919ـ خطبة الجمعة: خلق الراعي الأعظم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فَيَا عِبَادَ اللهِ: قَالَ اللهُ تعالى مَادِحًا حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.

وجَاءَ في الحَدِيثِ الذي رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.

وَقَدْ جَمَعَ اللهُ تعالى لَهُ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.

وَلَيْسَ في القُرْآنِ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ، جَاءَ في تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا»؟

قَالَ: مَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ العَالِمَ.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.

فَالدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، وَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ في الخُلُقِ زَادَ عَلَيْكَ في الدِّينِ؛ وَكَذَلِكَ التَّصَوُّفُ.

خُلُقُ الرَّاعِي الأَعْظَمِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أُخَاطِبُ كُلَّ رَاعٍ في هَذِهِ الأُمَّةِ، مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَاريُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

يَا أَيُّهَا الرَّاعِي، مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كُنْتَ مِنْ خِلَالِ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، اجْعَلْ قُدْوَتَكَ وَأَنْتَ المَسْؤُولُ عَنْ رَعِيَّتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ، سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْ صَاحِبَ خُلُقٍ مَعَ رَعِيَّتِكَ كَمَا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي أَرْسَلَهُ اللهُ تعالى إلى النَّاسِ كَافَّةً، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾.

فَسَاسَ النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِ حَتَّى شَهِدَ اللهُ بِعُلُوِّ أَخْلَاقِهِ فَقَالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.

فَيَا أَيُّهَا الرَّاعِي، عَلَيْكَ بِالأَخْلَاقِ عِنْدَمَا تَسُوسُ رَعِيَّتَكَ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَاحْذَرْ أَنْ تَقْطَعَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَلَا تُقَابِلِ الإِسَاءَةَ بِالإِسَاءَةِ، بَلْ قَابِلِ الإِسَاءَةَ بِالإِحْسَانِ ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.

تَحَلَّ أَيُّهَا الرَّاعِي بِصِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾.

القَطِيعَةُ يَسْتَطِيعُهَا كُلُّ أَحَدٍ، أَمَّا صِلَةُ مَنْ قَطَعَ فَلَا يَسْتَطِيعُهَا إِلَّا مَنِ الْتَزَمَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾.

هَلْ قَرَأْتَ في سِيرَتِهِ العَطِرَةِ أَنَّهُ قَطَعَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ؟

يَا أَيُّهَا الرَاعِي: اعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، فَالعَفْوُ مِنْ شِيَمِ الكِرَامِ، العَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَ مِنْ أَخْلَاقِ مَنْ يَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ تعالى لَهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾؟

العَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَ بَعْدَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ تَمَاسُكِ المُجْتَمَعِ، وَهُوَ مِنَ الأَخْلَاقِ العَظِيمَةِ التي لَا يَسْتَطِيعُهَا كُلُّ أَحَدٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.

يَا أَيُّهَا الرَاعِي: أَحْسِنْ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَهَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَاشَ بَيْنَ قَوْمٍ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ الكَذِبَ، وَيُؤْذُونَهُ بِكُلِّ صُوَرِ وَأَشْكَالِ الإِيذَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ في التَّعَامُلِ، فَمَا قَابِلِ الإِسَاءَةَ بِالإِسَاءَةِ، بَلْ عَفَا وَصَفَحَ، وَبَعْدَ العَفْوِ وَالصَّفْحِ كَانَ الدُّعَاءُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

فَيَا مَنْ أَقَامَكَ اللهُ تعالى مَقَامَ الرَّاعِي، سَوْفَ تُسْأَلُ رَعِيَّتُكَ عَنْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ، هَلْ عَامَلْتَ رَعِيَّتَكَ مِنْ خِلَالِ تَأَسِّيكَ بِالرَّاعِي الأَعْظَمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

يَا مَنْ يَسُوسُ رَعِيَّتَهُ، كَيْفَ تَسُوسُ رَعِيَّتَكَ؟ هَلْ رَأَيْتَ أُسْوَةً وَقُدْوَةً أَعْظَمَ وَأَكْمَلَ وَأَفْضَلَ مِنْ شَخْصِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

وَاللهِ مَا رَأَتْ عَيْنٌ أَكْمَلَ وَلَا أَعْظَمَ وَلَا َفْضَلَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَخْلَاقِهِ عِنْدَمَا سَاسَ النَّاسَ جَمِيعًا.

وَرَضِيَ اللهُ تعالى عَنْ سَيِّدِنَا حَسَانِ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَمَا قَالَ:

وَأَجْمَلَ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي   ***   وَأَفْضَلَ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ

خُـلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ   ***   كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَـشَاءُ

يَا رَبِّ حَسِّنْ أَخْلَاقَنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 20/ محرم /1446هـ، الموافق: 26/ تموز / 2024م

 2024-07-26
 1472
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

08-05-2025 162 مشاهدة
937ـ خطبة الجمعة: هل أصلحنا قلوبنا وطهرناها استعدادًا للقاء الله تعالى

الدُّنْيَا لِلْبَشَرِ لَيْسَتْ بِدَارِ مَقَرٍّ، وَلَا بَقَاءٍ وَلَا خُلُودٍ، وَهُمْ عَمَّا قَلِيلٍ مِنْهَا ظَاعِنُونَ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ وَعَنْهَا رَاحِلُونَ، ثُمَّ هُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ وَاقِفُونَ مُخْتَصِمُونَ وَمُحَاسَبُونَ، ... المزيد

 08-05-2025
 
 162
01-05-2025 449 مشاهدة
936ـ خطبة الجمعة: حدد همتك وغايتك

مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ في هَذَا الوُجُودِ لَهُ أُمْنِيَةٌ يَرْجُو نَوَالَهَا، وَيُخَطِّطُ لِتَحْقِيقِهَا، وَيُعِدُّ وَيُرَتِّبُ لِلْحُصُولِ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الآمَالُ وَالأَمَانِيُّ تَخْتَلِفُ مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ، وَتَخْتَلِفُ ... المزيد

 01-05-2025
 
 449
24-04-2025 515 مشاهدة
935ـ خطبة الجمعة: سلامة الصدر نعمة ربانية

مِنْ أَهَمِّ مَا يُمَيِّزُ الأُمَّةَ المُحَمَّدِيَّةَ، أَنَّهَا أُمَّةٌ مُتَوَادَّةٌ مُتَرَاحِمَةٌ مُتَكَاتِفَةٌ مُتَحَابَّةٌ، تَبْنِي أَفْرَادَهَا، وَتُقِيمُ مُجْتَمَعَاتِهَا عَلَى أُسُسِ التَّعَاوُنِ المُشْتَرَكِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالاحْتِرَامِ ... المزيد

 24-04-2025
 
 515
17-04-2025 498 مشاهدة
934ـ خطبة الجمعة: أسباب النصر (2)

لَقَدْ وَعَدَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى لَا يُخْلَفُ، بَلْ أَوْضَحَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ أَنَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ ... المزيد

 17-04-2025
 
 498
10-04-2025 847 مشاهدة
933ـ خطبة الجمعة: أسباب النصر (1)

مِنَ المَعْلُومِ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ مُسْلِمٍ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ، وَأَنْ يُمَكِّنَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ... المزيد

 10-04-2025
 
 847
28-11-2024 4269 مشاهدة
932ـ خطبة الجمعة: مهمتنا أيام الكرب والغمة

أَحْوَالٌ عَصِيبَةٌ، وَظُرُوفٌ رَهِيبَةٌ تُحِيطُ بِأَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، نَرَى صُوَرًا مُحْزِنَةً، أُمَّةٌ في مَجْمُوعِهَا كَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، أُمَّةٌ قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ... المزيد

 28-11-2024
 
 4269

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5691
المقالات 3213
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 423099490
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :