9ـ من وصايا الصالحين: أين تكمن السعادة؟

9ـ من وصايا الصالحين: أين تكمن السعادة؟

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فقد سأل بعض التلاميذ أستاذه ـ وكان من العارفين بالله ـ فقال: سيدي، أنا منذ سنوات أبحث عن السعادة فلم أجدها، فأين تكمن سعادة العبد؟

فأجاب العارف بالله: يا ولدي السعادة في الإيمان، والإيمان في القلب، ولا سلطان لأحد على القلب إلا الرب، فمن استقرّ الإيمان في قلبه وزاد فهو السعيد، وإلا فهو من أشقى خلق الله ولو كان منعَّماً بالصحة والعافية.

إخوتي وأحبائي في الله:

الكل يبحث عن السعادة، فمنهم من ظنَّ السعادة بالمال فتوجّه إليه، ومنهم من ظنَّ السعادة بالجاه فتوجّه إليه، ومنهم من ظنَّ السعادة بالنساء فتوجَّه إليهنَّ، ومنهم ومنهم.... والجميع دار في حلقة مفرغة، لأن السعادة ما كانت في يوم من الأيام بالأشياء الظاهرة، السعادة في الحقيقة نابعة من داخل العبد، من خلال إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

بالإيمان لا يضلّ العبد ولا يشقى، وبالإيمان لا يخاف ولا يحزن، ويُذكر في هذا المقام أن أبا الحسن الزاهد لما نصح ابن طولون الرجل الثريّ الحاكم، أزعجه النصح وأغضبه، فأمر ابن طولون بسجن أبي الحسن، وأن يجيعوا أسداً، ثم يحضروه يوم الجمعة، ليكون العبد الصالح فريسة لهذا الأسد الجائع، وأن يكون هذا الأمر أمام الناس ليكون عبرة لمن يتطاول على السلطان.

فجاؤوا بأبي الحسن أمام الناس، وجعلوا سوراً كبيراً أوقفوا فيه أبا الحسن وسطه، وجاء الأسد مندفعاً نحو أبي الحسن، فلما وصل عنده توقَّف، وجاء يتمسَّح بثوب أبي الحسن، ثم همهم وانصرف.

فسأل ابن طولون أبا الحسن: أستحلفك بالله بم كنت تفكّر والأسد قادم نحوك؟

قال: بما أنَّك استحلفتني سأقول لك: كنت أفكّر في نفسي هل سؤره ـ أي لعابه ـ طاهر أم نجس؟

يعني كان يفكِّر في أهمية الطهارة.

هؤلاء الرجال الذين غرسوا الإيمان في قلوبهم بفضل الله عليهم، علموا بحقٍّ قول الله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون}، وعلموا بحقٍّ قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

ونحن اليوم بأمسِّ الحاجة إلى زيادة الإيمان حتى نعيش سعداء.

فيا مريد السعادة، عليك بالإيمان، وبزيادة الإيمان، وذلك من خلال تلاوة القرآن العظيم تدبُّراً وتطبيقاً، وعليك بصحبة الصالحين الذين يزيد إيمانك في مجالستهم، حتى يصبح إيماناً شهودياً، كما كان أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما قال أحدهم: (نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ) رواه مسلم.

وروى ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: (كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟) قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: (انْظُرْ مَا تَقُولُ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟) فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَأظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: (يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ)، ثَلاثًا.

اللهمَّ أكرمنا من هذا الإيمان وزدنا منه يا أرحم الراحمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة

**     **     **

 

الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 3 ]

الشيخ أحمد النعسان
 2008-11-08

أخي الحبيب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الشكر لله عز وجل وحده, لأنَّ النعم جميعها منه, ونسأل الله تعالى أن يجعلنا على بصيرة من أمرنا, وأن يكون كلامنا حجة لنا لا علينا إنَّه على ما يشاء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هشام حلاوي
 2008-10-29

أشكر الله الذي عرفني عليكم, ثم أشكركم لتوجيه الأضواء على مفاتيح المعارف والكشف عن الأسرار التي يجهلها الكثير, ولكم الأجر والثواب بالدعوة والتوجيه.

محمد الشهابي
 2008-04-11

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سيدي. أسال الله عز وجل أن يجزيك عنا كل خير, وأن يبارك فيك وأن يظلنا وإياك بظله يوم لا ظل إلا ظله. وأن يجعلنا وإياك وجميع المسلمين من سعداء الدارين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

مواضيع اخرى ضمن  من وصايا الصالحين

05-03-2020 4851 مشاهدة
47ـ وصية أبي الدرداء (4)

لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الصَّغَائِرِ فَضْلاً عَنَ الكَبَائِرِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ ... المزيد

 05-03-2020
 
 4851
27-02-2020 3823 مشاهدة
46ـ وصية أبي الدرداء (3)

مَا أَجْمَلَ الصَّاحِبَ الصَّالِحَ، وَالأَخَ النَّاصِحَ، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِاللهِ تعالى، وَيُذَكِّرُكَ بِالمَهَمَّةِ التي خُلِقْتَ مِنْ أَجْلِهَا، مَا أَجْمَلَ مَنْ يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا. مَا أَكْرَمَ ... المزيد

 27-02-2020
 
 3823
21-02-2020 3001 مشاهدة
45ـ وصية أبي الدرداء (2)

إِنَّ مِمَّا يُرَقِّقُ الطِّبَاعَ؛ وَيَعِظُ الْقُلُوبَ ويُشَنِّفُ الأَسْمَاعَ؛ وَيَدْعُو أَصْحَابَهَا إِلَى الاتِّبَاعِ، مَا جَاءَ فِي وَصَايَا السَّلَفِ؛ التِي هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاعِظِ التُّحَفِ، وَحَسْبُنَا مِنْ وَصَايَا السَّلَفِ ... المزيد

 21-02-2020
 
 3001
06-02-2020 4851 مشاهدة
44ـ وصية أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمِنْ مِيزَاتِهَا التي خَصَّهَا اللهُ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ... المزيد

 06-02-2020
 
 4851
30-01-2020 5181 مشاهدة
43ـ وصية أبي الدرداء لأهل دمشق

طُولُ الأَمَلِ دَاءٌ عُضَالٌ، وَمَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَمَتَى تَمَكَّنَ مِنَ القَلْبِ فَسَدَ مِزَاجَهُ، وَصَعُبَ عِلَاجُهُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ دَاءٌ، وَلَا نَجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ، بَلْ أَعْيَا الأَطِبَّاءَ، وَيَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ الحُكَمَاءُ وَالعُلَمَاءُ، ... المزيد

 30-01-2020
 
 5181
25-10-2014 17448 مشاهدة
42ـ من وصايا الصالحين: وصية سيدنا عمر لأبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنهُما

فَإِنَّ لِلنَّاسِ نَفْرَةً عَنْ سُلْطَانِهِمْ، فَأَعُوذُ باللهِ أَنْ يُدْرِكَنِي وَإِيَّاكَ عَمْيَاءُ مَجْهُولَةٌ، وَضَغَائِنُ مَحْمُولَةٌ، فَأَقِمِ الْحُدُودَ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. ... المزيد

 25-10-2014
 
 17448

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414151989
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :